الفصل (4) الدراسة الدينية والأكاديمية

Share

 

 الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع مجموعة من الدراويش في بنجوين على الحدود مع إيران (1988)

«نحن لا نأمر المريد بِترك العلم، إذ من خلال العلم يعبدُ ربَّه. فالعلم يجعل العبادة على بصيرة، لأن العلم نور: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر/9). فنحن نأمر المريد بالعمل الصالح، نأمر المريد بالدراسة، بالقراءة، بالذهاب إلى المدرسة، بالعلم، بالثقافة، وبالعبادة. كم جميل أن يكون المريد مثقّفاً».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 29 كانون الثاني 2010)

ورث الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد عن أجداده حبّهم للدراسة بشكل عام والعلوم الشرعية بشكل خاص، فدخل منذ صغره مدرسة كَرْبْچْنَه الدينية التي كان أول من أنشأها شاه الكَسْنَزان. ودرس هنالك على يد كِبار علماء وفقهاء عصره، فكان من مدرّسيه الملّا كاكا أحمد سيف الدين، العالم الموسوعي صاحِب المؤلفات الكثيرة والذي أتقن عدداً كبيراً من العلوم كالتاريخ، والاجتماع، والرياضيات، والفيزياء، وغيرها. وذكر في مذكّراته بأنه قرَّرَ أن يذهب للتدريس في مدرسة كَرْبْچْنَه الدينية لأن نفوذ وقوة مشايخ كَرْبْچْنَه أعطته قدرة كبيرة على خدمة طلّاب العلم. ومن الذين درّسوا شيخنا أيضاً الملّا سعيد زَمْناكو، الذي له تفسير كامل للقرآن الكريم، والملّا علي مصطفى الملقب بـ «علي ليلان»، وغيرهم.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه (مطلع ثمانينيّات القرن الماضي)

ولما كان الشيخ حُسَين أكبر سناّ من الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بحوالي أحد عشرة عاماً، فقد كان مهتماً برعاية أخيه الأصغر، لاسيما وأن والدهما كان مشغولاً بإدارة أمور الطريقة. كان الشيخ حُسَين معروفاً بثقافته وعلاقاته الاجتماعية الواسعة وقوّته البدنية. وكان يحبّ لأخيه دخول مدرسة نظامية ودراسة الطب، بدل أن يستمر في إكمال دراسته في مدرسة دينية. وفي ذلك الوقت، كانت المدارس النظامية تقبل خرّيجي المدارس الدينية إذا اجتازوا امتحاناً خاصاً. فاستأجر الشيخ حُسَين معلّماً خاصاً اسمه «كريم زندي» (رحمه الله) ليدرّس أخاه ذا الاثنتي عشر عاماً المواد التي تُدرَّس في المدارس النظامية، مثل التاريخ والعلوم واللغة الإنكليزية والرياضيات، لكي يُهيئه للامتحان الخاص بالالتحاق بمدرسة نظامية. وبقي زندي مدرّساً لشيخنا لمدة أربع سنين.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في كركوك (1979/1978)

واجتاز شيخنا الامتحان في كركوك وقُبِلَ في الصف السادس الابتدائي الذي أكمله بنجاح، وبعدها أكمل دراسته المتوسّطة في مدرسة كانت تقع قريباً من قلعة كركوك التاريخية، حيث كان الشيخ عبد الكريم يغادر كَرْبْچْنَه أثناء برد الشتاء القارص ويذهب وعائلته للسكن في التكية في القلعة. ففي النصف الثاني من أربعينيّات القرن الماضي اشترى الشيخ عبد الكريم أرضاً في القلعة أسّس عليها تكية، وكانت هذه أول تكية رئيسة في كركوك. أما في زمن السلطان حُسَين، فقد كان أحد خلفائه يدير تكية في قلعة كركوك في موقع قريب من الأرض التي بنى عليها الشيخ عبد الكريم فيما بعد تكيته، وكان السلطان حُسَين يسكن في التكية القديمة حين يزور كركوك.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر في تكية كركوك (1993/8/27)

وخلال سِنيِّ دراسته في كركوك، كان شيخنا يبقى في التكية هنالك لمتابعة دراسته حين يعود الشيخ عبد الكريم إلى كَرْبْچْنَه أو يذهب إلى قرية هُمارامان في قَرَه داغ في محافظة السليمانية، حيث كان الشيخ عبد الكريم يتنقل للعيش بين كركوك وهُمارامان وكَرْبْچْنَه.

أكمل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد المتوسطة وبدأ بالمرحلة الإعدادية، التي كانت حينئذ تتكون من سنتين، ولكن في أواخر العام 1954 أُصيب أخوه الشيخ حُسَين بمرض عجز الأطباء عن تشخيصه، وأخذ هذا المرض يتفاقم تدريجياً حتى أقعده الفراش. وبعد ثاني عملية جراحية للشيخ حُسَين، في مستشفى الإمام في بغداد، تبيّن بأنه كان مصاباً بالسرطان. وأعجز المرض الشيخ حُسَين عن مساعدة والده، فاضطر الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد إلى ترك دراسته لكي يكون قريباً من والده وأخيه المريض. وفي بداية عام 1956 انتقل الشيخ حُسَين إلى رحمة الله.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه (نهاية ثمانينيّات أو مطلع التسعينيّات)

فكّر شيخنا في استئناف دراسته، ولكن الحاجة بعد وفاة أخيه لأن يكون في خدمة والده شيخ الطريقة جعلته يعدل عن هذه الفكرة. حيث أصبح مسؤولاً عن إدارة العلاقات الاجتماعية والعشائرية الكثيرة للشيخ عبد الكريم والإشراف على أراضيه الزراعيّة، واشترى له والده سيارة «جيب» للتنقل لأداء مهماته الجديدة. وكان شيخنا منذ صغره نشيطاً محباً للحركة والعمل وتحمّل المسؤوليات.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في فندق ابن خلدون في بغداد (1979/1978)

في عام 1956 كان على شيخنا أن يقوم بالخدمة العسكرية الإلزامية، ولكنه بقي في الجيش حوالي أربعين يوماً فقط قبل أن يدفع ما كان يُعرَف حينئذ بتعبير «البدَلَ»، وهو مبلغ مئة دينار يمكن أن يدفَعه الرجل بدلاً عن أداء الخدمة العسكرية الإلزامية.

بعد ترك شيخنا لدراسته النظامية وعودته إلى كَرْبْچْنَه، انخرط في مدرستها الدينية مرة أخرى وحصل على الإجازة العلمية الدينية من الملّا عبد الله مُحَمَّد عزيز الكربچني (رحمه الله)، الذي كان من خلفاء الشيخ عبد الكريم، وهو الذي غسل الجثمان الشريف للشيخ عبد الكريم حين توفى. ولكن الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الملكي في عام 1958 واهتمامه بالدفاع عن حقوق الأقلّيّة الكردية في العراق أدّى إلى هجرته في بداية عام 1959 مع الشيخ عبد الكريم إلى قرية بوبان في قضاء بنجوين في محافظة السليمانية، على الحدود مع إيران، ثم التحق بالحركة الكردية المسلّحة لمدة ستّة أعوام من أيلول 1961، وهي حقبة سنقرأ عنها في الفصل الخامس، فلم يعد في إمكانه الاستمرار في الدراسة التي تحتاج إلى استقرار وتفرّغ ومواظبة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في صلاة الجمعة في تكية بغداد، وبجواره الشهيد الخليفة الشاعر علي فايز (منتصف تسعينيّات القرن الماضي)

ونرى حبّه للدراسة في محاولته دخول الجامعة حين كان يقارب الأربعين من عمره، فأخذ إذن الشيخ عبد الكريم للدراسة في جامعة الأزهر في القاهرة. وسافر إلى القاهرة قرب نهاية عام 1977 وحصل على موافقة الأزهر بأن يدرس كطالب خارجي مقيم في كركوك وأن يسافر إلى الجامعة كل عام لأداء الامتحانات، ولكن بعد أن يحصل على شهادة أولية من الجامعة. وبقي شيخنا في القاهرة 42 يوماً حصل فيها على تلك الشهادة وعاد إلى كركوك. ولكن بعد حوالي شهرين من عودته توفي الشيخ عبد الكريم، في بداية الشهر الثاني من عام 1978، فخلفه شيخنا على سَجّادة الطريقة واضطرّ إلى ترك فكرة إكمال الدراسة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في فندق ابن خلدون في بغداد (1979/1978)

إن اضطرار شيخنا إلى عدم متابعة دراسته الأكاديمية لم يوقفه عن طلب العلم بشكل مباشر عن طريق المطالعة التي كانت أكبر هواياته، وكما سنرى في الفصل السابع عشر.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share