الفصل (2) الوِلادة البُشرى

Share

 

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في مسجد كَرْبْچْنَه (مطلع ثمانينيّات القرن الماضي).

«المريد يريد، والله سبحانه وتعالى والرسول والمشايخ يريدون من المريد، أي يريدون منه تطبيق الشريعة المحمدية ثم تطبيق أحوال وأقوال وأفعال الرسول على نفسه. لأنه إذا لم يكن الإنسان لنفسه فكيف يكون لغيره؟ فالإنسان المريد يجب أن يطبق الطريقة على نفسه أولاً، ثم على أهله وعائلته وأولاده. إذا كانت له القدرة والإمكانية، يطبّقها على الغير، مع الأصدقاء، مع الأقارب، مع الذين يعرفهم، وهكذا. يحدّثهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 2012/12/5)

وكان اختيار السيدة حفصة عبد القادر گُلَه نَبَر زوجةً للشيخ عبد الكريم بأمر ربّاني. فقد كان أخوها مصطفى صديق طفولة للشيخ حُسَين الكَسْنَزان، وكان يكنّ للسلطان حُسَين حباً جماً وكان الشيخ كذلك يحبّه كثيراً، كما جاهدا معاً ضد الجيش البريطاني في شمال العراق. كان الشيخ مصطفى قد عرض على الشيخ حُسَين أن يتزوّج أخته حفصة، ولكن السلطان حُسَين لم يكن يريد الزواج.

وبعد حوالي سنتين من عودة السلطان حُسَين من المهجر في إيران إلى كَرْبْچْنَه، طلب من الشيخ مصطفى تزويج الفتاة لأخيه عبد الكريم فوافق على هذا الشرف الكبير. فأرسل السلطان حُسَين في طلب أخيه الذي كان حينئذ غلاماً صغيراً لا يتجاوز الثلاث عشرة عاماً، فلما سمع الطفل بقرار أخيه الأكبر وشيخ الطريقة أخذ بالبكاء وركض بعيداً، كما يتصرّف الأطفال، ولكن السلطان حُسَين أخبره بأن لديه أسبابًاً لا يدركها هو جعلته يأمر بهذا الزواج. كان السلطان حُسَين يعلم بأن زواج أخيه وشيخ الطريقة من بعده من تلك الفتاة سيثمر عن خليفة الشيخ عبد الكريم على سَجّادة الطريقة. ومما يؤكّد على أن في هذا الزواج سرٌّ هو أن الفتاة التي اختارها الشيخ حُسَين كانت تكبر الشيخ عبد الكريم بخمسة أعوام، وهذا يخالف التقليد السائد بأن تكون الزوجة أصغر سناً من الزوج.

فتزوّج الشيخ عبد الكريم السيدة حفصة وهو في بداية شبابه. وولدت له أول أبنائه «حُسَين» في عام 1927، وفي عام 1937 أنجبت أولى بناتهما الأربع، «عائشة»، قبل أن يرزقهم الله فجر الجمعة 15 نيسان 1938 بسرَّ زواجهم وثالث أولادهم.

وتروي السيدة شَمْسة (رحمها الله) ابنة الشيخ حُسَين ما حدث ليلة ولادة شيخنا المباركة، وكان لها من العمر حينئذ عشر سنين. فحين علم بأن زوجة أخيه عبد الكريم قد جاءتها آلام الولادة في الليل، بقي يمشي جيئة وذهاباً بين داخل البيت والباحة وهو يذكر «يا هو، يا هو»، منتظراً ولادة الوليد الجديد. ولم يهدأ الشيخ حُسَين ويجلس حتى أخبروه بحدوث الولادة في بداية الفجر.[1] وتبيّن حقيقة أن شيخنا لم يكن أول أولاد الشيخ عبد الكريم والسيدة حفصة بأن اهتمام السلطان حُسَين بولادة شيخنا بالذات كان استثنائياً.

وكان السلطان حُسَين هو الذي أطلق عليه اسم «مُحَمَّد»، جرياً على التقليد الساري بأن يختار شيخ الطريقة أسماء المواليد الجدد. وبعد حوالي ثمانين عاماً، وعلى وجه التحديد في عام 2016، أضاف الرسول ﷺ اسمه الشريف إلى اسم شيخنا ليُنادى «مُحَمَّد المُحَمَّد».

وفي يوم أرسل السلطان حُسَين في طلب الوليد الجديد وكان في مجلسه عدد من أولاده الذين كان بعضهم أطفالاً. ولما مدَّ الشيخ يده ليستلم الوليد الملفوف بالقِماط، قال له درويش مُسِن بأن أولاده ستصيبهم الغيرة من هذا المنظر. ولكن الشيخ أخذ الطفل ووضعه في حضنه وأخذ بمدحه: «هذا محيي الدين، هذا سيفيد الدين، هذا ذو عمر طويل».

من الجلي أن الشيخ حُسَين رأى في ابن أخيه شيخاً للطريقة في المستقبل، مثلما قال عنه والده وأستاذ الطريقة قبله الشيخ عبد القادر. فحين أخبروا الشيخ عبد القادر بولادة ابنه عبد الكريم، طلب منهم إحضار الطفل حديث الولادة إليه. فلما وضعوه أمامه، قام الشيخ بتحريك عصاه فوق الطفل جيئة وذهاباً وقال: «ما شاء الله، ما شاء الله، سيهدي الله سبحانه وتعالى الكثير من العرب على يدي ابن هذا الرجل إلى الطريق الصحيح». وفعلاً، في عهد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، وبالذات بعد بنائه للتكية الرئيسة في بغداد وانتقاله من مدينة كركوك في شمال العراق للعيش في بغداد بشكل دائم في عام 1982، أخذت أعداد هائلة من العرب بيعة الطريقة.

حين كان عمر الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد شهرين أو ثلاثة، أصابه مرض شديد حتى ظن والداه أنه لن يعيش، فأخذاه إلى عمه السلطان حُسَين، الذي كان قد اعتزل الناس والدنيا، فقال لهم شيخ الطريقة، الذي كان يعلم بأن الله قد كَتَبَ للطفل مستقبلاً ودوراً روحياً عظيماً، بأن لا يقلقوا على رضيعهم الصغير فإن له حرساً يحمونه، فاطمأنّا بأنه سيكون بخير.

وإحدى الحوادث التي تجسد حب السلطان حُسَين الاستثنائي لابن أخيه وقعت حين كان هذا الشيخ الزاهد على فراش الموت، قبل انتقاله من هذا العالم بساعات قليلة. كان الشيخ عبد الكريم وزوجته جالِسَين قريباً من الشيخ يبكون لقرب مفارقته لهم ولهذا العالم، وكان طفلهم الذي لم يكن قد أكمل سنته الأولى بعد هنالك في معيّة مُرَبﱟ. فلما رآه الشيخ حُسَين أشار وهو راقدٌ في فراشه طالباً أن يجلبوه إليه. فلما جاءوا بالطفل إليه ووضعوه على صدره، أخذ يقبّله ويشمّ رقبته وكأنه يشم فيه رائحة الطريقة الزكية التي كُتِبَ له تولّي أمورها بعد أربعين عاماً. وازداد بكاء الحضور وهم يشهدون هذا الموقف المؤثر، ثم تقدّم الشيخ عبد الكريم فرفع طفله من على صدر الشيخ الذي كان زُهْد السنين والخلوات قد أخذ منه مأخذه، لكي لا يؤذيه ثقل الرضيع. وكانت هذه آخر بشارة من السلطان حُسَين قبل انتقاله من هذه الدنيا حول علو شأن الطفل مُحَمَّد المُحَمَّد في المستقبل.

[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 10شباط 2016 .

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share