الفصل (14) حُبّ الأماكن المقدَّسة وإعمارها

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان قبل دخوله إلى مقام الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

«يا دراويش الكَسْنَزانِيّة، إن عليكم ما عَليّ؛ علينا الطاعة: ﴿أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء/59). يجب على المريد إطاعة الشيخ، لأن الشيخ يطيع الله سبحانه وتعالى، يطيع حضرة الرسول، ويطيع المشايخ. فمن الناحية الروحية، أنا وأنت مرتبطان من شيخ إلى شيخ، إلى حضرة الرسول، إلى الله سبحانه وتعالى. فليست الدروشة مجرّد أخذ البيعة ثم تذهب وينتهي الأمر. كلّا، إن الدروشة هي ربط روحي برباط الطريقة، إذ ترتبط أنت روحيًاً بروح الشيخ، فشيخ إلى شيخ، إلى حضرة الرسول، إلى الله سبحانه وتعالى».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 27 أيلول 2012)

إن لمراقد الأئمة والمشايخ قدسيّة خاصة عند أهل التصوف، لأنها أماكن مباركة تسكنها وتزورها أرواح الصالحين والملائكة. وهنالك ما لا يُعدُّ من الكرامات التي تؤكّد قدسيّة هذه الأماكن. لذلك اهتمّ شيخنا بإعمار المقامات المقدَّسة، كما كان يحب زيارتها بين الحين والآخر.

1-14 إعمار العتبات المقدَّسة

بدأت جهود أستاذنا في هذا المجال قبل استلامه لمشيخة الطريقة. ففي عام 1977 استحصل الشيخ عبد الكريم على موافقة وزارة الأوقاف على المساعدة مادّياً في ترميم روضة المراقد في كَرْبْچْنَه وجامعها، بإشراف مديرية أوقاف كركوك. وعيّن الشيخ عبد الكريم وكيله الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد مسؤولاً عن المشروع.

وأحبّ شيخنا أن يستخدم حجراً من كَرْبْچْنَه في البناء الخارجي للمسجد والتكية والمراقد. وجادل مهندس الأوقاف بأن هذا سيزيد من كلفة المشروع، ولكن شيخنا أصرّ على ذلك وطمأنه بأنه مسؤول عن الحصول على الموافقة على الكلفة الإضافية. ولم يكن الحجر يُستَخدَم في البناء في كَرْبْچْنَه، أي كانت هذه فكرة إبداعية لشيخنا، فجُلِبَ الحجر من مقلع وراء حوض شاه الكَسْنَزان. كما استخدم نفس الحجر في بناء بيته في كركوك. وجلب شيخنا المرمر من جبل سَه گَرمه واستخدمه في بناء أرضيّة بيته في كركوك وفي التكية الرئيسة في بغداد. واستخدام حجر ومرمر كَرْبْچْنَه هو تبرك بهذه القرية التي من أقواله في فضلها: «لقد سطع نور الرسول ﷺ آلاف المرات على مراقد كَرْبْچْنَه وجبلها والقرية بأكملها. إن كل شيء في كَرْبْچْنَه مبارك».

وقام نقّاشون ونقّارون مهرة من كركوك بنقش البناء الخارجي. ولكن بعد بضعة أشهر من بدء العمل بتعمير الجامع والروضة توفّي الشيخ عبد الكريم، فأكمل شيخنا البناء قبل أربعينيّة الشيخ المنتقل. وكان ضريحا شاه الكَسْنَزان والسلطان عبد القادر في غرفة وضريحا السلطان حُسَين والسلطان عبد الكريم في غرفة أخرى، فأصبحت الأضرحة الأربعة في روضة واحدة تعلوها قبة كبيرة.

كما قرّر شيخنا أن يضع على كل ضريح تاجاً بحجمه بارتفاع مترين من الذهب وبناء باب كبير جديد لمدخل روضة المراقد. وأرسل في طلب خلفاء من مدينة سنندج الإيرانية لهم مهارات خاصة في التصميم بالذهب وخلفاء من النقّاشين الماهرين من أصفهان في إيران، والتقى بهم في أربعينيّة الشيخ عبد الكريم في كَرْبْچْنَه. وناقش معهم تصاميمه، فكانوا يرسمونها ثم يعرضوها عليه، فيوافق عليها أو يطلب إجراء بعض التغييرات. وكانت النقوش والزخارف التي استقرّ عليها شيخنا هي من النوع الذي يعرف باسم «كربلائية». وبعد أن اكتملت التصاميم، عادوا إلى إيران ليباشروا بالعمل.

وبعد الحصول على أرض التكية الرئيسة في بغداد، طلب شيخنا أن يكون لباب مسجد التكية نفس تصميم باب روضة كَرْبْچْنَه. والرمز في هذا القرار هو أن باب مسجد التكية في بغداد هو الباب إلى روضة المشايخ في كَرْبْچْنَه، حيث إنه خليفتهم وأستاذ الطريقة من بعدهم.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أمام مقام الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

واستغرق تصنيع تيجان الأضرحة والبابين في أصفهان أربع سنوات وثلاثة أشهر لأنه عمل يدوي دقيق، حيث اكتمل في منتصف عام 1982. ومن المذهِل أنه لتعذّر نقل القطع بالسيارة، لغلق الحدود بين العراق وإيران بسبب الحرب الدائرة بين البلدين آنذاك، حملها الدراويش على رؤوسهم ونقلوها مشياً على الأقدام من إيران إلى كَرْبْچْنَه! وباب الروضة بالذات ثقيل جداً، حيث تطلّب حمل كل واحدة من دفّتيه أكثر من عشرة رجال. وكانت المنطقة التي يجب نقل الحمولة خلالها جبلية وعرة، يصعب فيها أحياناً السير حتى من غير حمل، ناهيك عن السير بحمل ثقيل وكبير جداً مثل تلك القطع. وتطلّب النقل عبور جبال مغطّاة بالثلج. وكان الطريق عبر جبل سُورين بالذات أحياناً ضيق جداً. كما أن عبور الحدود خفية ومن دون موافقات أجبر الدراويش على تجنّب الطرق المعروفة السالكة ليسلكوا بدلاً منها طرقاً سرّية وعرة لعبور المنطقة الحرام بين البلدين، التي كانت تمتدّ حوالي عشرة كيلومترات في كل جانب. وكانوا يسيرون ليلاً فقط لتجنّب أن تراهم قطعات الجيش، فاستغرقت عملية النقل أحد عشر يوماً. ورغم ذلك فقد شعرت بهم قطعات من الجيش أكثر من مرّة وأطلقت عليهم النار. ومن الكرامات التي حدثت لهم أن الرصاص كان أحياناً يصيبهم ولكن من غير أن يؤذيهم. فكان نقل الدراويش لتيجان المراقد وباب الروضة الشريفة والتي تطلّب حمل كل قطعة منها عدداً من الرجال عملاً غاية في الصعوبة والخطورة.

وجدَّدَ شيخنا روضة كَرْبْچْنَه من الداخل. فأصبحت أرضية الروضة من المرمر النفيس، وزُيِّنَ سقفها بزخارف جميلة، ووُضِعَت فيها ثريات جميلة وفريدة، وزُيِّنَت الجدران بقطع من السيراميك ذات نقوش جميلة وشريط أزرق عليه النسب الشريف. وللروضة قُبة مطلي وسطها بالمرايا العاكسة تعطي الروضة رونقاً جميلاً، ولها باب يؤدي إلى الباحة الأمامية وآخر يؤدي إلى المسجد الملاصق لها.

وفي أربعينيّة الشيخ عبد الكريم في منتصف الشهر الثالث من عام 1978، كان درويشاً من الأولياء اسمه «كاكا عزيز» جالساً مع الخليفة ياسين صوفي في زاوية الحائط الذي يفصل بين الجامع والأضرحة، ووراءهما مقام شاه الكَسْنَزان، حين قال بأنه رأى الشيخ عبد القادر الكَسْنَزان يهدّم حائط المسجد الذي أمامهما، أي الجدار المواجه للوادي، الذي كان قد اكتمل توّاً بناؤه. فعلّق الخليفة بأن البناء قد استغرق فترة طويلة وجهوداً كبيرة فمن المستبعد أن يتم هدمه، ظانّاً بأن الهدم سيكون بأمر من شيخنا لإعادة بنائه، فردّ كاكا عزيز بأنّه لم يقل إلا ما كُشِفَ له، وهو أن الشيخ عبد القادر هدَمَ هذا الحائط دون باقي الجدران. فلما سأله ياسين عن طبيعة ما سيحدث للحائط، أجاب كاكا عزيز بأنه وسقفه سيتعرّضان لخلل. وخلال الحرب العراقية-الإيرانية، التي بدأت بعد حوالي سنتين ونصف من هذه الحادثة، استهدف الجيش العراقي كَرْبْچْنَه في حملة تدمير لكثير من القرى، بما في ذلك المساجد والمقامات، في كردستان التي كانت تشكّ الحكومة بأن من سكّانها من يتعاون مع الپيشمرگه. وأصابت أبنية روضة الأضرحة والجامع بعض الدمار، ولكن الحيطان والسقوف لم تتأثّر، باستثناء الجدار الذي رأى كاكا عزيز يد الشيخ عبد القادر الكَسْنَزان تهدّه، فقد أنهار. كما فجّرت الحكومة قاعات سكن الدراويش. وقام شيخنا لاحقاً بإعمارها كلّها، وجعل في وسط الجامع قبّة تقوم على أربعة أعمدة من الخرسانة واستخدم الزخرفة الإسلامية في تجميله من الداخل والخارج، كما جدّد أثاثه.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يعطي البيعة في محل إقامته خلال زيارته لندن (2000).

في نفس الوقت الذي قرّر شيخنا أن يكون لباب مسجد تكية بغداد نفس تصميم باب روضة كَرْبْچْنَه قرّر أيضاً أن يستبدل تاج مرقد الشيخ عبد القادِر الگيلاني، واستحصل موافقة الجهات الرسمية. واكتمل التاج في عام 1983، فأوصله الدراويش إلى كركوك، حيث كان شيخنا حينئذ. ثم نُقل بالسيارة إلى التكية الرئيسة في بغداد، لأن شيخنا أراد أن يبقيه هنالك ليلة واحدة للتبرّك، ثم نُقِلَ في اليوم التالي إلى روضة الشيخ عبد القادِر في بغداد. وحين لاحظ أحد المسؤولين أن التاج كان من إيران، سأل شيخنا مندهشاً كيف أمكن ذلك والحدود بين البلدين مُغلقة ومُراقَبة من الطرفين من قبل جنود مستعدّين لإطلاق النار على أي شخص يتجاوز الحدود. فأجابه: «وكيف رمى سيدنا الگيلاني قبقابه من بغداد إلى الهندستان؟»، مستشهداً بإحدى كرامات الغوث الأعظم. إذ جاء مريد لزيارته من منطقة تقع اليوم في الباكستان، وحين كان المريد في بغداد حاول أحدهم الاعتداء على ابنته في الباكستان، فرمى الشيخ عبد القادِر قبقابه من بغداد فضرب المعتدي وأنقذ الفتاة من الأذى. ومن الكرامات التي حدثّت أثناء نقل التاج من إيران هي عدم شعور الدراويش الذين كانوا يحملون المقام ببرودة الجو حين كانوا يضطرون للنوم في مناطق وعرة تغطّيها الثلوج. بل وكانوا يشعرون بالحر إلى درجة التعرّق!

ونُقِلَ التاج القديم ووُضِعَ على مقام الشيخ جنيد البغدادي. ومن الكرامات التي رافقت تبديل التاج، هي أنه بعد أن رفع الدراويش التاج القديم ليضعوا التاج الجديد محلّه، قام الخليفة ياسين صوفي، وكان من المكلّفين باستبدال التاج، بأخذ قطعة من الفضة بحجم كف اليد من التاج القديم ليصنع ستة أو سبعة خواتم للتبرّك، يحتفظ بواحد منها ويهدي الآخرين إلى دراويش معيّنين من أصحاب الأحوال. بعد أن اكتمل العمل، عاد إلى أهله في أربيل، وذهب إلى قريب له يعمل صائغاً وطلب منه أن يحول قطعة الفضة المباركة إلى خواتم. ولكن الصائغ اعتذر لأنه لم يكن لديه قالب للخواتم وعرض عليه بدل ذلك أن يجعلها حلقات. فوافق ياسين وأكّد على قريبه أن يحاول قدر الإمكان أن يستخدم كل قطعة الفضّة في صنع الحلقات ولا يترك منها فضلات، لأنها من المقام المبارك للشيخ عبد القادر. وأبقى الخليفة الأمر سراً ولم يحدّث به أحداً.

بعد عودته إلى الرمادي، حيث كان يقيم للإرشاد، جاءه يوماً إلى التكية درويش من الأولياء اسمه «أحمد سور» (رحمه الله). وبعد أن جلس الحاج أحمد، بادر الخليفةَ بالقول:

لقد بلغني الشيخ عبد القادِر هذه الليلة بما يلي: «لقد أخذ ياسين خمس عشرة حلقة من ضريحي، فقل له بأن يعطيك إحداها».

فأجابه الخليفة:

يا حاج أحمد، لقد أخذت قطعة فضّة لأصنع منها خواتمَ، ويمكن أن تنتج ستة أو سبعة، ولكن لا يمكن أن تنتج خمسة عشر. كما كان في نيّتي أن أعطيك واحداً منها حتى قبل أن يأتي هذا التبليغ.

فردّ الحاج أحمد:

يا درويش، إنني أقول لك ما بلّغني الشيخ عبد القادِر الگيلاني، وإلا هل كنتُ معك لأعلم بهذا الأمر؟ هو الذي قال بأنك قد أخذت خمس عشرة حلقة من ضريحه وأمرني بأن أقول لك أن تعطيني واحداً منها.

بعد حوالي أسبوع، زار ابن أخت الخليفة ياسين خاله وناوله قطعة مَحرَم ملفوفة وقال له بأن أمه طلبت منه أن يوصل هذه الأمانة إليه. وعندما فتحها وجدها تحتوي على الحلقات، فلمّا عدّها وجدها أربع عشرة، فقال لابن أخته بأن هنالك حلقة مفقودة. فضحك هذا متعجّباً وأجاب بأنه حين علمت أمّه بأن الحلقات مصنوعة من قطعة من مقام الشيخ عبد القادِر احتفظت بواحدة لنفسها تبرّكاً. فكان عدد الحلقات الكلي هو خمس عشرة، كما أخبر الشيخ عبد القادِر الحاج أحمد سور في الرؤيا.

وفي وقت لاحق استبدل المسؤولون عن الحضرة القادرية تاج مقام الشيخ عبد القادر الذي صنعه شيخنا بآخر من الفضة مصنوع في الهند، فلمّا علم شيخنا بذلك قال بأنه قام بواجبه في خدمة المقام وتجديد تاجه وأن ما فعله القائمون على المقام أمر يعود لهم. ونُقِلَ التاج الذي صنعه شيخنا من بغداد ووُضِعَ على مقام الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد القادر الگيلاني في مدينة عقرة. كما جدّد شيخنا الباحة التي تحيط بمرقد الشيخ عبد القادر حيث كساها بمرمر من النوع الممتاز.

وعمّر أستاذنا مقام الشيخ إسماعيل الوِلْياني في عقرة وكساه بحلّة ذهبية. واستغرق العمل في هذا المشروع أكثر من خمسة أشهر قام خلالها أمهر خطاطي بغداد بخط الآيات والصلوات والأوراد والأشعار، وصاغ أبرع صيّاغ أصفهان الحلّة الذهبية. ونُصِّبَ المرقد الشريف في يوم ذكرى ولادة الشيخ عبد القادر الگيلاني في 11 ربيع الثاني 1427 هجري الموافق 9 أيّار 2006 ميلادي.

ومن إنجازات شيخنا في مجال إعمار الأماكن المقدّسة هو تمويله وتنفيذه لمشروع إيصال الماء والكهرباء إلى جامع النبي يونس (عليه السلام) في مدينة الموصل.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة كَرْبْچْنَه (نهاية ثمانينيّات القرن الماضي).

2-14 زيارة الأماكن المقدَّسة

من الطبيعي أن شيخنا كان يحب زيارة الأماكن والمراقد المقدَّسة. وحين كان في بغداد كان يزور بين الحين والآخر مقام الشيخ عبد القادر الگيلاني وكذلك مراقد غيره من مشايخ الطريقة مثل معروف الكرخي والسريّ السقطي والجنيد البغدادي. ولكن توقّف أستاذنا عن زيارة المراقد المقدَّسة في كربلاء والنجف بعد زيارته الأخيرة لها في عام 1995 بعد أن أبلغته حكومة بغداد بذلك، لتخوّفها من أي تقارب بين الطريقة والقيادات الدينية الشيعية. كما كان يزور مقامي الإمام موسى الكاظم وحفيده الإمام محمد الجواد في بغداد مرة واحدة في السَنَة، ويتردد أحياناً أخرى على منطقة الكاظميّة قرب المقامين من غير من أن يدخل تجنّباً للمشاكل مع السلطة الحاكمة.

وخلال السنين التي لم يكن شيخنا يستطيع أن يزور فيها كَرْبْچْنَه بسبب العمليات العسكرية بين القوات الحكومية والكردية في شمال العراق وبعد ذلك نتيجة الحرب العراقية-الإيرانية، كان يرسل من ينوب عنه من الدراويش الساكنين في المناطق القريبة ليقوموا بالزيارة كل حين وآخر. كما كان يرسل أحياناً من يقوم بزيارة العتبات المقدَّسة الأخرى نيابة عنه.

وقرار شيخ الطريقة بزيارة مكان مقدّس معيّن ووقتها لهما أسباب هو أعلم بها، أحياناً يصرّح بها وأحياناً لا يصرّح بها. فمثلاً في صباح أحد الأيام في عام 1993، قبل خروجه لزيارته اليومية إلى أحد دور المخطوطات في بغداد، أخبر عدداً من الخلفاء في التكية بأنه سيأتي رجل أسود البشرة، وأوصاهم بأن يطلبوا من الرجل أن ينتظره حتى يعود لأنه ضيفه. كما طلب من الخليفة مجيد حميد الذي كان يرافقه في زياراته اليومية لدور المخطوطات البقاء في التكية لانتظار مجيء الرجل.

وجاء رجلٌ سوداني يعرج في مشيته بسيط المظهر ودخل إلى غرفة الاستراحة والنوم في التكية. حين رآه الخليفة مجيد يدخل التكية لم يظن بأنه من قصده شيخنا لأنه لم يرَ فيه ما يمكن أن يثير اهتمام شيخنا ويجعل منه ضيفاً خاصاً من بين الكثير من زوار التكية كل يوم. حين عاد أستاذنا إلى التكية، وقبل أن يذهب إلى بيته، سأل عن الرجل، فأخبره الخليفة مجيد عن مجيء رجل سوداني ولكنه لا يدري إن كان هو من ينتظر. وبدل أن يرسل شيخنا في طلبه، كما هي العادة حين يريد التكلّم مع أحد الدراويش، فإنه ذهب لرؤيته في غرفة استراحة الدراويش. وبادره بالقول بأن الشيخ جنيد البغدادي زاره الليلة الماضية وأبلغه بأنه سيرسل إليه رجلاً لديه إصابة وطلب منه مساعدته، وسأله إن كان قد زار الشيخ جنيد البغدادي. فأجاب هذا مذهولاً بأنه زاره فعلاً في اليوم السابق، وأضاف بأنه في الصباح شعر برغبة في قلبه بزيارة التكية الكَسْنَزانِيّة. ثم سأله عن إصابته، فأجاب بأنه أثناء العمل سقط قير حار على قدمه فاحترقت بشدة. ومن المعروف أن القير الحار يمكن أن يحفر عميقاً في الجسم، وقد يسبب عوقاً دائماً. وطمأن شيخنا الرجل بأنه سيبقى تحت رعايته حتى يشفى، ثم طلب من بعض الدراويش أن يأخذوه إلى الطبيب ليتلقّى العلاج. وبقي المريض في التكية حتى تماثل تماماً إلى الشفاء. وحين عاد إلى بلده السودان أنشأ تكية كَسْنَزانِيّة هنالك. وفرح أستاذنا بمجيء الرجل الذي وصفه بأنه «هديّة سيّدنا الجنيد البغدادي» فذهب بعدها لزيارة مقامه. وزيارات أستاذنا للحضرة القادريّة هي غالباً بسبب من رؤيا شاهدها أو استجابة لاستدعاء من قبل الشيخ عبد القادر لزيارته.

وكان شيخنا يبدي أقصى مظاهر التقديس والاحترام في زيارته للعتبات المقدّسة. فحين يزور الروضة القادرية كان دائماً يقبل عتبة الباب، ولا يدير ظهره أبداً للمقام الشريف خلال الزيارة. وفيما يلي حادثة تبيّن درجة التوقير والتبجيل التي يبديها عندما يزور أستاذه الشيخ عبد القادِر الگيلاني. ففي صباح أحد الأيام في نهاية تسعينيّات القرن الماضي، قرّر زيارة الحضرة القادريّة وأذن لبعض الدراويش الذين كانوا في التكية حينئذ بمرافقته في الزيارة. وفي الطريق إلى المقام أخبر الشيخ سامان الذي كان في رفقته بأن الشيخ عبد القادِر استدعاه وأنه أكرمه في تلك الليلة، وإن لم يُفصِح عن طبيعة ذلك الكرم الگيلاني. حين وصلت السيارة إلى شارع المقام، ترجّل منها قبل أن تصل إلى المقام ليمشي إليه، وهذا من آداب زيارته للحضرة المباركة، وتبعه الخلفاء والدراويش. ولكن بدلاً من أن يجتاز الباحة الخارجية التي تفصل الشارع عن المزار ليدخل الصحن الشريف، توجّه نحو كلب جالسٍ في بقعة من الظل في الباحة الخارجية أمام المقام وخاطبه برقّة طالباً منه أن يسمح له بأن يقف في مكانه ليسلّم على الشيخ عبد القادِر من هناك! فأصاب الدراويش الذي كانوا في صُحْبته ما أصابهم من الأحوال حين شهدوا هذا الموقف الكبير بتواضعه. وترك الكلب محلّه فوقف شيخنا في تلك البقعة وتوجّه نحو المقام الشريف وأخذ يناجي صاحِبه قَدَّسَ الله سِرّه العزيز. ورغم سماع مرافقيه القريبين منه خطابه فإنهم لم يفقهوا منه شيئاً.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في باحة تكية بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

ولم يكن ما فعله أستاذنا مع الكلب في هذه الزيارة فريداً. ففي أحد الأيام ذهب لزيارة الحضرة الگيلانية ولم يكن في صحبته سوى الشيخ سامان وسائق السيارة. حين وصلوا إلى الباحة التي أمام المقام، التفت إلى مرافقه وقال له بأنه سيقف قليلاً مع صديقه. لكن الشيخ سامان لم يفهم ما قصده لأن المكان كان خالياً من الناس، حيث كان الوقت حوالي الثانية ظهراً من يوم صيف حار جداً. ثم سار شيخنا باتّجاه كلبٍ أحمر اللون كان يستظل قرب الحائط، فوقف قريباً منه ورفع إحدى قدميه قليلاً عن الأرض وأخذ يحرّكها، ليبقى مستنداً على قدمه الأخرى وعصاه، وهي حركة رمزية يقوم بها تصغيراً لنفسه أمام كبار المشايخ واحتراماً لهم، بما في ذلك عند حضور أرواح المشايخ في حلقة الذكر. وبقي واقفاً هنالك لفترة قصيرة ثم توجه لزيارة الحضرة الشريفة. فكان هذا الكلب هو الصديق الذي أشار إليه أستاذنا!

وفي تلك الليلة في التكية قال شيخنا للشيخ سامان أن يطلب من بعض الدراويش أن يقوموا في صباح اليوم التالي، قبل خروج شيخنا من البيت إلى التكية، بغسل ساحة التكية والباحة التي أمامها إلى الشارع. وفي الصباح، بعد أن أكمل الدراويش التنظيف خرج أستاذنا إلى التكية. وبعد قليل إذا بالكلب الذي كان خارج الحضرة الگيلانية في اليوم السابق يأتي من الشارع متّجهاً إلى باب التكية وهو يبكي بصوت وبدموع ظاهرة. وحين رأى شيخنا الكلب طلب من الخليفة أن يقول للدراويش في التكية بأن كلب التكية ليس نجساً، لكي لا يمنعوه من الدخول. وذهب الكلب إلى مطبخ التكية وجلس تحت إحدى الطاولات بينما لايزال يصدر عنه صوت البكاء. بعد فترة ذلك حمله أحد الدراويش بلطف وأخرجه من تحت الطاولة وغادر التكية. من الواضح أن هذا ليس بسلوك كلب طبيعي، فالله أعلم بحقيقة ذلك المخلوق وأمره.

إن سلوك أستاذنا في زيارته هو جهاد لنفسه كي لا يأخذها أي فخر بما حصل عليه من الشيخ عبد القادِر ومن مشايخ الطريقة من بركة. وفعله هذا يذكّر بقوله الذي يكرّره كل حين وآخر من أن الدرويش الحقيقي في وفائه وطاعته لأستاذه كوفاء الكلب لصاحِبه وطاعته له.

ومن دروس أستاذنا التعليمية للدراويش حول التمثّل بالكلب في وفائه، أنّه كان يوماً في التكية الرئيسة في البصرة حين شاهد خارجها طفلاً يرمي الحجارة على كلبٍ يتبعه، وكان الكلب يتفادى الحجارة ويستمر في مُصاحَبة الطفل. فطلب من الحاضرين أن ينادوا له الطفل. وسأله عن سبب رميه الكلب بالحجارة، فأجاب بأنه كان يريد منعه من السير وراءه، ولكن من دون جدوى. فسأله ثانية عن سبب لحاق الكلب به، فأجاب بأن الكلب يحبّه. فهزّ شيخنا رأسه موافقاً وخاطب الدراويش الحاضرين قائلاً: «هكذا يجب أن يكون حال المريد مع شيخه، فيجب أن لا يغضب من شيخه وأن يأتيه بمجرّد أن يومئ إليه». ومن كلام الشيخ عبد القادر الگيلاني في هذا الباب:

«يا غلام، العبد إذا عرف الحق عز وجل، قَرّب قلبه كلَّ القرب، وأعطاه كل العطاء، وآنسه كل الأُنْس، وأعزّه كل العز. فإذا سكن إلى ذلك، أزالَه عنه، وأفقرَ يده، وردّه إلى نفسه، وجعل بينه وبينه حجاباً ليختبره وينظر كيف يفعل: هل يهرب؟ هل يميل أو يثبت؟ فإذا ثبت، رَفع الحجاب عنه وردّه إلى ما كان عليه. أما رأيتم الوالد يختبر ولده ويُخرجه من بيته ويغلق الباب في وجهه ويقف وينظر ماذا يصنع؟ فإذا رآه قد لازم العتبة ولم يمض إلى جاره، ولم يشكُ منه ولم يسئ الأدب، فَتَح َالباب وأخذه وضمّه إليه وزاد في الإحسان إليه».[1]

[1] الشيخ عبد القادر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 52-53.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share