الفصل (10) نقل التكية الرئيسة إلى بغداد

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، وسط الصورة، في جلسة مدائح في مسجد تكية بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

«التكية هي مدرسة روحية لتأهيل المريد ليكون عابداً، سالكاً، إنساناً صالحاً مُصلحاً في المجتمع. نحن نريد مجتمعاً مُحَمَّدياً ﷺ، مجتمعاً كمجتمع صحابة الرسول ﷺ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقِعة/10-11). نحن نريد أخلاقهم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم/4)، صلى الله سبحانه وتعالى عليك وسلم يا سيدي يا رسول الله».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 22 كانون الثاني 2010)

عند جلوس شيخنا على سَجّادة الطريقة في بداية عام 1978 كانت تكية الطريقة الرئيسة، أي مكان إقامة شيخ الطريقة، في منطقة إمام قاسم في مدينة كركوك في شمال العراق، حيث استقرّ الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان منذ عام 1968. قام شيخنا بتوسيع التكية وأضاف إليها بيتاً مجاوراً، وبنى تكية خاصة بالنساء، وأخلى البيت المجاور للتكية الذي كان يسكنه خلال مشيخة والده وحوّله أيضاً إلى تكية للدراويش.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في صلاة الجمعة في تكية بغداد، وبجواره الشهيد الخليفة الشاعر علي فايز (منتصف تسعينيّات القرن الماضي).

ولكن من أهم خطوات الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الإرشادية في بناء التكايا هو قراره بعد فترة قصيرة من استلامه لمشيخة الطريقة نقل التكية الرئيسة إلى بغداد، أي نقل سكنه من كركوك إلى بغداد، حيث قاد هذا إلى نشر الطريقة بشكل سريع لم يسبق له مثيل. فحين جلس على سَجّادة الطريقة، لم يكن في بغداد سوى ثلاث تكايا صغيرة، واحدة في منطقة الرحمانية، وكانت عبارة عن غرفة في بيت، وأخرى في منطقة الأرضروملي، والثالثة قرب الحضرة الگيلانية. وكان هنالك خليفة واحد فقط في بغداد، اسمه «باقر» (رحمه الله)، يدير تكية الرحمانية، أول تكية كَسْنَزانيّة في المدينة.

وحين زار شيخنا بغداد في بدء المشيخة، وكان يسكن في زياراته فندقاً اسمه «ابن خلدون» قرب جسر الصرّافيّة، حَدَّثَ «كامل شهاب» (رحمه الله) الذي كان يدير تكية الأرضروملي عن أهمية بناء تكية في بناية متخصّصة يجتمع فيها المريدون للذكر والعبادة والإرشاد وكذلك يلتقون فيها شيخهم. ووجّهه للبحث عن أرض مناسبة لبناء التكية الرئيسة عليها، من بعد أن أعطاه فكرة عن طبيعة المكان المطلوب. وبعد أن اطّلع الحاج كامل على عددٍ من المواقع المحتملة، اقترح قطعة أرض في منطقة حي القضاة وسط بغداد تبلغ مساحتها 1.365 متراً مربعاً. ولما كانت الأرض في ضواحي بغداد، رأى بعض المريدين من العرب والأكراد بأنها بعيدة عن مركز المدينة وأن الوصول إليها ليس سهلاً، ولكن عندما زارها شيخنا رأى فيها تكية المستقبل فقرَّرَ بأنها الأرض المطلوبة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية عمان، الأردن (12 كانون الأول 2013).

كانت الأرض مُحاطة بسياج وتستعمل لرمي النفايات من قبل البيوت المجاورة. كانت ملكيّة الأرض تعود إلى الدولة، وللجهات المسؤولة أكثر من خطة لاستثمارها ولكنها لم تكن قد اتّخذت قراراً نهائيّاً. ويسّرت كرامةٌ حصول الطريقة على الأرض. فقد جاء عدد كبير من المريدين من بغداد، في حوالي سبع حافلات نقل كبيرة، لزيارة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد في قرية كَرْبْچْنَه، حيث كان يشرف على أعمال تعمير مراقد المشايخ هناك. وكان قد اندسَّ بين الزوار شابٌ اسمه «علي» من موظفي الدائرة الأمنية في مكتب القيادة القومية لحزب البعث الحاكم في العراق حينئذ، وكان مُرسَلاً من قبل الجهات الأمنية للتجسّس على الطريقة. فقد كانت الطريقة دائماً مصدر قلق للحكومة التي لم تكن تفهم بأنّها مؤسّسة روحية لا دنيوية. وزاد في قلقها أن شيخ الطريقة وكثير من دراويشها كانوا من الأكراد، حيث كانت السلطات المركزيّة في صراع مع جهات سياسية ومسلحة كردية. وبينما كان الزائر المُرسَل بين مئات المريدين في كَرْبْچْنَه قرب مقامات المشايخ، كان شيخنا جالساً مع ضيوف في بيته الواقع على تل يبعد حوالي خمسين متراً عن المراقد. وفجأة استدعى أستاذنا الخليفة مُحَمَّد محمود (رحمه الله)، المعروف باسم مُحَمَّد چمچمال، الذي كان بمثابة وكيله الإداري بين الخلفاء والدراويش، وأعطاه أوصاف ذلك الرجل وأبلغه بإيصال رسالة إليه.

فلما عثر الخليفة مُحَمَّد على الرجل، أخذه جانباً ونقل رسالة شيخنا إليه: إن كَرْبْچْنَه منطقة آمنة لا يحتاج فيها إلى المسدّس الذي كان يخفيه، كما أن في المناطق المحيطة مقاتلي أكراد من الپيشمرگه قد يسبّبون له مشاكلَ إذا علموا بأنه يحمل سلاحاً. وطلب منه أن يعطيه المسدّس ليبقيه أمانة عنده على أن يرافقه في رحلة العودة بعد انتهاء الزيارة ويعيده إليه في سنگاو بعد أن يكون هو وباقي الدراويش قد عبروا المنطقة الخطرة وأصبحوا في منطقة آمنة تماماً لا يوجد فيها پيشمرگه. فتغيّر وجه الرجل من هول المفاجأة وأنكر في البدء حمله للسلاح، ولكنه لما وجد الخليفة واثقاً تماماً من قول الشيخ اعترف مذهولاً بصحة ما قال وأعطاه مسدّسه، ثم طلب منه أن يأخذه لرؤية الشيخ. فلما استقبله شيخنا أعاد عليه قوله بأن كَرْبْچْنَه آمنة وأن من الأفضل أن لا يحمل سلاحاً في هذه المنطقة لأنه إذا علم الپيشمرگه بأنه مسلَّح فقد يحدث سوء فهم ويؤذونه. وطمأنه مرة أخرى بأن الخليفة سيعيد إليه سلاحه في سنگاو في رحلة العودة. ثم قال له بأنه ليس لدى الطريقة ما تخفيه مما يتطلّب التجسّس عليها، وأن كل ما يشغل الشيخ والدراويش هو ذكر الله وعبادته، وطلب منه حين يعود بأن يكتب لمن أرسله تقريراً دقيقاً وتفصيلياً بما رأى. كما طلب منه أن يأتي لرؤيته مرة أخرى فيما بعد.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في ساحة تكية بغداد (1996).

وأصبح علي من مريدي الطريقة، وقام باستخدام علاقاته لإكمال الموافقات على بناء التكية على قطعة أرض حي القضاة. فبكرامة من المشايخ تحوّل هذا الرجل من جاسوسٍ على الطريقة إلى أحد مريديها الطيّبين، وكان ظهوره في وقت مثالي ليقدم خدمة مهمة للطريقة للمساعدة في تعجيل بناء التكية الرئيسة في بغداد. وتم تسجيل أرض التكية في عام 1979، بعد حوالي عام من جلوس شيخنا على سَجّادة الطريقة، وبدأ العمل ببنائها في عام 1980. كان شيخنا يزور بغداد بشكل مستمر للإشراف على البناء، وكان في البدء يسكن في الفندق، ولكن حين أخذت فترات زيارته تطول، قام بتأجير بيت. وافتُتِحَت التكية في عام 1982، فازدادت زياراته لها، قبل أن ينتقل مع عائلته في نفس العام للسكن بشكل دائم في بيته في التكية، فأصبحت بغداد مركز إرشاد الطريقة.

وصُمِّمَت التكية وبُنِيَت بإشراف مباشر من أستاذنا. وطلب شيخنا من المهندس المسؤول أن يجعل ساحة الذكر كبيرة، فأجابه بأن الشيخ قد طلب منه أن يبني أيضاً مسجداً يتسّع للمصلّين والذاكرين، وقاعة تتسّع للدراويش الذين منهم من يبيت في التكية، وبيتاً للشيخ الذي هو الآخر لا يخلو من الزوّار، لذلك فمن الصعوبة جعل ساحة الذكر كبيرة. وكان تفكير المهندس متأثراً بحجم ساحة الذكر الصغيرة في تكية كركوك، فقال بأنه لا يعتقد بأن هنالك حاجة لساحة كبيرة لأنها لن تمتلئ. فأجابه شيخنا بأن مشايخ الطريقة يجلبون من المريدين قدر ما تتّسع التكية، فكلّما كبُرَت كلما زاد عددهم، وطلب منه أن يجعل ساحة الذكر أكبر ما يمكن. ونتيجة للإرشاد المستمر أصبح الدراويش يملؤون ساحة التكية في ليلتي الاثنين والخميس، حيث تُقام حلقة الذكر. وقال شيخنا نفس الكلام في تعليقه على بناء التكية في بستان منطقة الدورة الذي أخذت الطريقة في استخدامه في بعض الاحتفالات الدينية لأن التكية الرئيسة لم تعد تتّسع للحضور.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان بعد ورد العصر في تكية عمان، الأردن (15 تشرين الأول 2016).

وطلب أستاذنا بناء قاعة خاصّة بالنساء تقوم فيها المرشدات بتثقيف الدرويشات وطالبات العلم عن الطريقة. كما كانت والدته تستقبل فيها من تريد زيارتها طلباً للدعاء أو النصيحة. وعند إقامة حلقة الذكر ليلتي الاثنين والخميس، تُخصَّصُ قاعة النوم، التي تطلّ على باحة التكية حيث يُقام الذكر، أيضاً للنساء، لكي يشاركن منها في الذكر دون أن يُرَون.

وجعل شيخنا باب جامع التكية نسخة طبق الأصل من الباب الجديد الذي صَمّمه لروضة مراقد المشايخ في كَرْبْچْنَه. وعند تصميم مسجد التكية، الذي طوله 22 متراً وعرضه 17 متراً و 65 سنتمتراً، أراد عدم استخدام أعمدة داخل قاعة المسجد. ولكن الشيخ سامان معروف، المهندس المسؤول، قال بأن قبّة المسجد، التي كانت قمّتها ترتفع 17 متراً عن أرض المسجد، ضخمة ومبنيّة من الكونكريت المسلّح، مما يعني بأن ثقلها، إضافة إلى وزن التغليف، يتطلّب إسنادها بعمود، وفقاً للقوانين الهندسية. إلا أن شيخنا كرّر طلبه بأن يكون المسجد بدون عمود في الداخل، فأجابه الشيخ سامان بأنه وإن كانت قوانين الهندسة تستوجب بناء عمود ساند، فإنّه سيبنيها من دونه اعتماداً على همة شيخنا. وبعد يومين من صبّ القبّة ووضع أعمدة خشبية وقتية إلى أن تتصلّب مادة البناء، لاحظ الخليفة المشرف على البناء بأن أحد الأعمدة الخشبية قد مال، فكرّر الشيخ سامان قوله بأنّه من المفروض للقبّة أن تستند على عمود، ولكنه أعرب عن عدم قلقه عليها لكونها لم تنهار أثناء عملية الصب. وبعد اكتمال المسجد تم أيضاً تعليق ثريّا ضخمة ثقيلة جداً من سقف القبّة!

بعد تغليف القبّة من الخارج ووضع الهلال على قمّتها، شاهد الشيخ سامان في الرؤيا يد الشيخ إسماعيل الوِلْياني تسند القبّة. وحين سأل يوماً مجموعة من المهندسين شيخنا عن كيفية قيام قبّة مسجد التكية من غير عمود يسندها أجابهم: «إن يد الشيخ عبد الكريم تسندها إلى يوم القيامة». وحتى الانفجارات الضخمة قريباً من التكية جراء القصف الجوي خلال حربي الخليج لم تؤثّر على قبة المسجد، في برهان آخر على حمايتها من قبل مشايخ الطريقة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد وسط حلقة الذكر في تكية بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

يقوم الدراويش عادة ببناء التكايا، لأنها من بيوت الله ولأنها الأماكن التي يجتمعون فيها ويقيمون حلقات الذكر. وعند بناء تكية رئيسة في مدينة ما، يشترك في بنائها مريدون من مدن أخرى أيضاً للمساعدة. وهكذا بُنِيَت التكية الرئيسة في بغداد.

ومن الكرامات التي رافقت بناء التكية الرئيسة في بغداد هي أن شيخنا، الذي كان حينها في كركوك، أرسل خليفة اسمه «أحمد حُسَين»، يُعرَف بلقب «أحمد خوشناو»، وآخر اسمه «مُحَمَّد» إلى معمل في مدينة أربيل لشراء المرمر للتكية، وحدّد لهما نوعه، ولونه، وأبعاده، والكمية المطلوبة. ولكن مدير المعمل اعتذر بأن ما أراداه لم يكن متوفّراً. ولكن شيخنا عاد وطلب منهما مرّة أخرى أن يذهبا إلى نفس المعمل للسؤال عن المرمر. فقال أحمد متردّداً بأن مدير المعمل قال لهما بأن المرمر غير متوفّر، ولكن لما كانت هذه رغبة الشيخ فسيذهب مرة أخرى. فضرب شيخنا بلطف على ظهره مشجّعاً وقال له: «اذهب كَسْنَزاني، كَسْنَزاني». حين وصلا إلى المعمل شعر مُحَمَّد بالإحراج من السؤال مرة أخرى عن المرمر، فدخل أحمد لوحده إلى مكتب المدير. وبادر مخاطباً الحضور في المكتب بأنه يعلم بأنهم سبق وأن أخبروه بعدم توفّر هذا النوع من المرمر لديهم، ولكنه عاد طالباً منهم التأكّد نزولاً عند رغبة الشيخ. فكرّر المدير عدم وجود ذلك النوع من المرمر عندهم، ولكن كان هنالك موظف يدوّن شيئاً فوضع القلم جانباً وطلب من الخليفة أن يرافقه إلى المخزن لأنه تذكّر احتمال وجود مثل هذا المرمر. وأزاح العامل غطاءً فكشف عن المرمر الذي طلبه الشيخ، ووجد بأن الكمية الموجودة تطابق الكمية المطلوبة، فقال العامل مندهشاً: «إن شيخكم يعلم بما في معملنا أفضل منّا». وتذكّرنا هذه الكرامة بإحدى معجزات عيسى عليه السلام وهي علمه بما خزن الناس في بيوتهم: ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ (آل عمران/49).

وأصبحت تكية بغداد مركز تخطيط بناء تكايا كَسْنَزانيّة في مختلف مدن العراق وفي الكثير من دول العالم.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share