التَّاريخ يَشهد بعصمة القُرآن العَظيم

Share

المؤلف: لؤي فتوحي، شذى الدركزلي

الموضوع: تصوف

تاريخ النشر: 2002

 

 

كانت إقامة بني إسرائيل في مصر، ومن ثم خروجهم منها فاستقرارهم بعد ذلك في فلسطين، من أهم الأحداث التي احتفى بها كتاب العهد القديم. فالتاريخ المروي في العهد القديم هو بشكل رئيس تاريخ بني إسرائيل الذين يصفهم ذلك الكتاب بأنهم «شعب الرب المختار» والمركز الذي تتمحور حوله خطط الرب للإنسانية جمعاء. لذلك ليس غريبا أن تُعطى هذه الأهمية الاستنثائية لإقامة بني إسرائيل في مصر وخروجهم منها ومن ثم استقرارهم في فلسطين، إذ تمثل هذه الأحداث ولادة أمّة بني إسرائيل.

لم يهتم عموم الناس فحسب من اليهود والنصارى بإقامة بني إسرائيل في مصر، فالخروج، فالاستقرار في فلسطين، وإنما جذبت كل حلقة من هذه الحلقات من مسلسل تاريخ بني إسرائيل اهتمام الباحثين المتخصّصين الذين درسوا كلا منها بالتفصيل. كما نُشرت ولا تزال تُنشر آلاف الكتب والمقالات، العامة والأكاديمية التخصّصية، ونُظِّمَت وتُنَظَّم اللقاءات والمؤتمرات الثقافية لمناقشة كل تفاصيل الإقامة في مصر والخروج منها والاستقرار في كنعان. ويمكن تقسيم اهتمام الباحثين بحلقات مثلث الحوادث هذا الى نوعين: اهتمام ديني لاهوتي وآخر تاريخي. أما اهتمامنا في هذا الكتاب فسيتركّز على الجانب التاريخي لهذه الحوادث.

بينما يهتم اللاهوتيون بالدلالات الدينية لمسلسل الأحداث هذا، ينصب اهتمام المؤرخين بشكل أساسي على القيمة التاريخية لهذه الأحداث، ولكافة حوادث العهد القديم الأخرى أيضا طبعا. بعبارة أخرى، خلافاً للاهوتيين، لا يهتم المؤرّخون بالدلالات الدينية لهذه الأحداث، ولكن فيما اذا كانت قد وقعت فعلا، وإن كانت قد حصلت فعلا، هل حدثت كما وُصفت في العهد القديم. وبينما ليس للدراسات اللاهوتية دلالات على تاريخية هذه الأحداث، فإن للدراسات التاريخية لهذه الوقائع نتائج على لاهوتيّتها لأنه لا يمكن أن تكون لحادثة ما اهمية دينية ما لم تكن حادثة تاريخية فعلا، أي قد حصلت حقا.

تلقّى البحث في تاريخية مسلسل أحداث الإقامة-الخروج-الاستقرار زخما مستمرا، بدء في أواخر القرن التاسع عشر، متمثّلا في البيانات المتزايدة الناتجة من البحوث والتحريات الآثارية في مصر وفلسطين والأردن بصورة خاصة وفي الشرق الأوسط بشكل عامة. ولم يعد المؤرخون مضطرون إلى الاعتماد فقط على رواية العهد القديم التي تتناول تاريخ تلك الحقبة وعلى كتابات يهودية أخرى من تعليقات وتفسيرات على رواية العهد القديم. فقد وجد المؤرخون المهتمون بتاريخية أحداث العهد القديم في اللقيّات الآثارية مصادر تاريخية موضوعية مستقلة تماما عن العهد القديم. فبدأت بذلك مرحلة تمحيص رواية العهد القديم على ضوء البيانات الجديدة. مثّل هذا في نظر الكثيرين بداية فرع جديد تماما في البحث الأكاديمي هو «علم آثار العهد القديم» Biblical archaeology. بعبارة أخرى، كان العلماء في السابق مضطرين الى الاعتماد بشكل كلي على العهد القديم بينما يوجد الآن حجم متزايد من معلومات التحريات الآثارية المُستخلَصة من مصادر مستقلة عن العهد القديم.

لكن اهتمام الباحثين هذا بالمعلومات من خارج العهد القديم، على هيئة لقيّات آثارية، يتناقض تماما مع إصرارهم على إهمال مصدر معلومات مستقل عن العهد القديم يعود تاريخه الى الثلث الأول من القرن السابع للميلاد: القرآن العظيم. صحيح أن القرآن العظيم ليس كتاب تاريخ تقليدي كالعهد القديم وأنه يذكر معلومات مختصرة فقط عن تاريخ بني إسرائيل القديم، إلا انه يحتوي مع ذلك على معلومات مهمة كماً ونوعاً. بالإضافة الى هذا، فإن القرآن العظيم يقدّم نفسه على أنه كتاب موحى من الله تعالى خالق هذا الكون ومؤرّخه الكامل العالِم بكل شيء، مبيّنا بأنه مستقل تماما عن كافة أشكال الموروثات التراثية، المكتوبة والشفهية، التي كانت متداولة في عصر نزوله بين الناس. كما يشير القرآن الكريم الى أن العهد القديم ليس بمصدر ينطق بالحق، وبالتالي فإن معلوماته التاريخية لا يمكن الوثوق بها. بالنظر الى النتائج المهمّة المترتّبة على هذه الادّعات، يتوقع المرء بأنه لابد وأن يكون القرآن العظيم قد حظي باهتمام ودراسة مؤرخي حادثة خروج بني إسرائيل من مصر، وكذلك الباحثين في مجالات اخرى، لتحديد ما إذا كان فعلا أكثر مصداقيّة من العهد القديم حين يُقارَن ما ورد فيه بالأدلة من مصادر خارجية. إلا أن هذا لم يحصل.

ترينا الكتابات الأكاديمية عن واقعة الخروج تشبّث الباحثين بيأس بكل شظية من فخاريات قديمة تم استخراجها من مواقع آثارية، أو جدلهم حول قراءة أو ترجمة بضع كلمات في كتابات قديمة تكاد بالكاد أن تبين وذلك لإثبات فكرة أو أخرى. ومع ذلك فقد أهمل هؤلاء الباحثون القرآن العظيم تماما. وبينما تَقَرأ الصفحات تلو الصفحات من البحوث والكتب الأكاديمية عن الخروج متوقّعا العثور على إشارة الى الرواية القرآنية عن هذه الحادثة والحوادث ذات العلاقة، تكتشف بأن توقعك لم يكن في محله. ثم تُقلِّل توقّعاتك الطموحة لتقصرها على الأمل بالعثور على شيء يفسّر هذه الحالة الغامضة ويشرح سبب هذا الصمت العالمي عن الرواية القرآنية. ولكن حتى هذه الأمنية المتواضعة لا تتحقق. قد تجد بعض الإشارات الى مصادر يهودية قديمة متعلّقة بالعهد القديم نفسه، إلا أن الشيء الوحيد الذي تجده عن الرواية القرآنية هو هذا الصمت المُطبَق.

هنالك فرضيتان فقط لا ثالث لهما يمكن ان تفسّرا هذا الصمت الأكاديمي تجاه القرآن العظيم والاعتماد التام على رواية العهد القديم لتاريخ بني إسرائيل القديم. الفرضية الأولى هي أن العهد القديم يمثّل رواية حق للأحداث، وبذلك فإن أي مصدر آخر يأتي بما يناقض العهد القديم لا يمكن ان يحظى بمكانته، وليست هنالك حاجة اليه ويجب بالتالي أن يُهمَل. إلا إن عصمة العهد القديم المزعومة هذه لم تعد أمراً مقبولاً على الاطلاق في نظر دارسي هذا الكتاب. لذلك، يجب إهمال هذه الفرضية. لم يبق لنا إذا سوى الفرضية الثانية وهي النظر الى القرآن على أنه مشتق من العهد القديم، وبالتالي لا يمكن إعتماده كمصدر مستقل عنه. وفعلاً، حين يُكسر الصمت عن القرآن العظيم في بعض الحالات النادرة فإن هذا لا يحدث الا للإشارة الى أن القرآن الكريم ليس سوى نسخة محورة عن العهد القديم!

إن هذه الفرضيّة الاتّهاميّة التي تقف وراء الإهمال التام للقرآن العظيم في بحوث حوادث الخروج هي قديمة قِدَم القرآن العظيم نفسه. فعندما كان القرآن العظيم لا يزال يوحى الى الرسول محمد ﷺ، ظهرت ادعاءات، وهو أمر ذكره القرآن الكريم نفسه، بأن الرسول ﷺ لم يكن يتلقّى وحياً من الله وإنما كان يتلقى علماً من شخص له معرفة بكتب اليهود والمسيحيين. ولم تفقد هذه النظرية جاذبيتها على مر القرون وبقيت كامنة في أذهان الكثير.

يشير باحثو العهد القديم الى تشابهات بين القرآن العظيم والعهد القديم، حيث يعتبر الكثيرون منهم هذا كافيا للاستنتاج بأن القرآن العظيم مشتق من العهد القديم. إن نظرة سريعة إلى القرآن العظيم تبين فعلاً وجود تشابهات مع العهد القديم. ولكن القرآن العظيم نفسه يشير ضمنيّاً إلى أن العهد القديم مشتق جزئيا من كتاب إلهي أصيل هو «التوراة»، ولذلك فإن وجود تشابهات هو امر متوقع بالتأكيد. بالإضافة الى ذلك فإن هذه التشابهات جد محدودة وأن الاختلافات بين الكتابين هي أكبر بكثير، كماً ونوعاً. إن هذه العبارة الاخيرة تنطبق أيضا على رواية القرآن العظيم ورواية العهد القديم عن تاريخ بني إسرائيل. لذلك فإن المنحى الصحيح في تقييم الرواية القرآنية لتاريخ بني إسرائيل هو تمحيصها بشكل دقيق، وأن يُخصَّص لها ولو جزء يسير من الوقت والجهد الذين مُنِحا بسخاء للعهد القديم واللذين لم يكن لهما على مر السنين الطويلة، وكما سيوضح هذا الكتاب، سوى مردود ضئيل. لو فعل المهتمون بتاريخ الخروج ذلك لوجدوا في الرواية القرآنية قصة متماسكة ومتناسقة الاجزاء وفي توافق تام مع الأدلة من المصادر الخارجية. كما كان ذلك سيجنّبهم الارتباك الهائل الذي تخلقه تناقضات رواية العهد القديم في ذهن قارئها.

إن هدف هذا الكتاب هو البرهنة على النقاط الثلاث التالية. أولا، لما كان التماسك هو صفة للنص القرآني بشكل عام، فإن الرواية القرآنية للخروج لا تحتوي على أي تناقض داخلي. ثانياً، يخلو القرآن الكريم تماما من ادعاءات العهد القديم، أو إية ادعاءات آخرى، تخالف أدلة من مصادر خارجية. بعبارة اخرى، لا توجد آية قرآنية كريمة واحدة تتناقض مع حقيقة تاريخية ثابتة ومؤكدة. ثالثا، يكشف القرآن العظيم عدداً من الحقائق عن الخروج توضّح بدون لبس شخصية الفرعون الذي شهد حادثة الخروج. إن المعنى الضمني للبرهنة على هذه النقاط هو ببساطة أن هذا القرآن وحي من المؤرخ الحق، الله عز وجل.

من الضروري التأكيد على ان كتابنا هذا لا يتبع التقليد الشائع بين الباحثين في محاولة عقلنة المعجزات وعرضها على انها أحداث عادية لاقناع القارئ غير المؤمن أو المشكِّك بصدق حدوثها. إن هذا الكتاب يضادد بشدة هذا الأسلوب الرامي الى التلاعب بالحقيقة لجعلها ملائمة لأذواق الناس وعقولهم بدلا من محاولة تغيير تلك العقول والأذواق لتتقبل المعجزة. ولا عجب في ذلك، حيث أن الهدف الأساسي لهذا الكتاب هو تسليط المزيد من الضوء على حقيقة أن القرآن هو أعظم معجزة في كل الأزمان. يهدف هذا الكتاب إلى تحديد السياقات والخلفيات التاريخية التي حدثت فيها المعجزات. من الصحيح القول بأن التاريخ يتشكّل بصورة أساسية من أحداث عادية وطبيعية، إلا أن المعجزات أيضا قد أسهمت بشكل مؤثّر في قيادة التاريخ الى ما أصبح عليه، وستبقى تسهم في صنع التاريخ. إن عبور النبي موسى عليه السلام مع بني إسرائيل البحر كان إحدى هذه المعجزات التي بدونها كان تاريخ العالم سيكون مختلفا تماما عما هو عليه اليوم.

إن صورة خروج بني إسرائيل والأحداث المصاحبة التي سيتم وصفها في هذا الكتاب مبنيّة بشكل كامل على رواية القرآن العظيم. وتبعنا في تفسير النص القرآني قاعدة «القرآن يفسر بعضه بعضاً». ولما كان هدف الكتاب الرئيس هو إبراز الرواية القرآنية لإقامة بني إسرائيل في مصر ومن ثم خروجهم منها، والى حد ما استقرارهم لاحقاً في فلسطين، فلن يكون هنالك تركيز على كشف كل ما موجود من تناقضات داخلية في العهد القديم وما يحتويه من تناقضات مع أدلة من مصادر خارجية، وانما سيقتصر اهتمامنا على تلك التناقضات التي لها علاقة بنقاش الكتاب.

Share