الفصل (17) الإرشادُ: دَعْوةُ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في احتفال مولد حضرة الشيخ عبد القادِر الگيلاني، عمّان، الأردن (22 كانون الثاني 2016).

«يا قوم أجيبوني فإني داعي الله عز وجل. أدعوكم إلى بابه وطاعته، لا أدعوكم إلى نفسي. المنافق ليس يدعو الخلق إلى الله تعالى؛ هو داعٍ إلى نفسه؛ هو طالب الحظوظ والقبول، طالب الدنيا. يا جاهل تترك سماع هذا الكلام وتقعد في صومعتك مع نفسك وهواك. تحتاج أولاً إلى صحبة الشيوخ وقتل النفس والطبع وما سوى المولى عز وجل. تلزم باب دورهم، أعني الشيوخ، ثم بعد ذلك تنفرد عنهم وتقعد في صومعتك وحدك مع الحق عز وجل. فإذا تم هذا لك صرتَ دواءً للخلق، هادياً مَهديّاً بإذن الحق عز وجل».

الشيخ عبد القادِر الگيلاني (الفتح الرّبّاني والفيض الرحماني، المجلس الثامن، ص 46)

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، ربما في تكية بغداد، (16 آب 1987).

كانت مهمة النبي ﷺ الرئيسة هي تبليغ رسالة الله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (المائدة/67)، فأفنى الرسول ﷺ حياته في دعوة الناس إلى الله، وداوم على تذكير المسلمين بأهمية الإرشاد وحثّهم عليه، كما في حديثه الشريف التالي الذي يبيّن مكانة المسلم المرشد:

«ألا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَقْوَامٍ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَكُونُونَ عَلَيْهَا؟»

فسأله الصحابة عنهم فقال: «الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَيُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ نُصَحَاءَ». فلمّا سأله الصحابة كيف يحبّبون عباد الله إليه قال: «يَأْمُرُونَهُمْ بِحُبِّ اللَّهِ وَيَنْهُونَهُمْ»، يقصد عَمَّا كَرِهَ اللَّهُ، «فَإِذَا أَطَاعُوهُمْ أَحَبَّهُمُ اللَّهُ».[1]

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع ابنه الأصغر عبد الكريم (1988).

وسيراً على خُطى جدّهم رسول الله ﷺ، بذل مشايخ الكَسْنَزان حياتهم في الدعوة إلى الطريق إلى الله وضحّوا بالغالي والنفيس في سبيل ذلك. ويقوم الإرشاد في الطريقة الكَسْنَزانيّة على أساسي الدعوة إلى الله في القرآن: الحكمة والموعظة الحسنة. فدعوة الناس إلى الله يجب أن تكون مبنية على الحجج المنطقية المُسنَدة بالعلم وعلى الاحترام والكلام الطيب: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل/125).

ومن الصفات القرآنية للإرشاد هو التعايش السلمي مع الأديان الأخرى واحترام حق الإنسان في اختيار دينه وعقيدته، وهو حق أقرّه القرآن وأمر به في زمن لم يكن معروفاً فيه، بل ولم يبدأ في دخول القوانين البشرية الوضعيّة إلا بعد أكثر من ألف سنة:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة/256).

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (٤) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون/1-٦).

﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام/108).

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان/63).

ولذلك لم يتوانَ شيخنا عن شجب أية جهة متطرّفة تحاول إكراه الناس على قبول دين أو مذهب معيّن، بما في ذلك الحركات المتطرّفة والإرهابية التي تحاول إخفاء حقيقتها تحت اسم الإسلام وتستخدم الإكراه والعنف ضد المسلمين وغير المسلمين:

«ليس في الطريقة إكراه على الدين، لأية فئة، لأية قومية، لأي مذهب، لأي دين من الديانات الموجودة على الكرة الأرضية. نحن ننشر المحبة: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (الأنفال/61). نحن ننشر الرحمة، ننشر الأخوّة والمحبة، ننشر المساواة، ننشر السلم في العالم بين الشعوب.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يستقبل سفير الفاتيكان لدى الأردن، المطران جيورجيو لنغوا، في تكية عَمّان (آذار/مارس 2015).

نحن لسنا بقتلة، نحن لسنا بمخرّبين، إنما نحن مُصلحون. نحن ننشر الرحمة والأخوّة والمحبّة، ننشر الإسلام الحقيقي، لا كأولئك المزيفين الذين يقتلون الناس، يفجّرون الناس، يُؤذون الناس. هذا خارج عن الدين الإسلامي. الدين الإسلامي دين الرحمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ﴾، يا مُحَمَّد، ﴿إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/107)، لكل العالم: للكردي، للعربي، للهندي، للصيني، للإنكليزي، للأمريكي، للأفريقي، لليهودي، للروسي، للكل. فنحن إنسانيون، نتعامل مع الناس بالإنسانية. بل حتى مع الحيوانات، فالرفق بالحيوان من تعاليم الدين الإسلامي، الرفق بكل شيء. فأنتم أهل الرفق، أهل المحبة، أهل الأخوّة، أهل السلم، أهل السجود والركوع لله».[2]

ويستطرد شيخنا في التأكيد على أن الدين الإسلامي مبني على السلام والمُؤاخاة ويستنكر حملات التشويه التي تتعرض لها رسالة النبي مُحَمَّد ﷺ من قبل الجماعات المتطرّفة والإرهابية في سعيها نحو أهداف تخالف الشريعة والطريقة:

«يقول الله: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾ (آل عمران/31). كيف يحبّك الله؟ بمحبتك للناس، بخدمتك للناس، بأخوّتك مع الناس، بتآلفك مع الناس. بالأخوّة، وبالمحبة، وبالحفاظ على أعراض الناس، وبالحفاظ على أرواح الناس.

القول بأن «هذا إنكليزي، فاقتله»، غير موجود في الدين؛ أو «هذا روسي، فاقتله»، غير موجود في الدين؛ أو «هذا يهودي، فاقتله»، غير موجود في الدين. من لا يقتلك لا تقتله. يجب أن تلجأ إلى الكلام الطيب: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل/125)، وليس بالتصرف وكأنك ﴿تَخْرِقَ الْأَرْضَ﴾ أو ﴿تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ (الإسراء/37). بل بالأخوّة والمحبة والإسلام اجلبهم إلى الإسلام. بالإسلام اجعلهم كأبيك وابنك وأختك وأخيك وابنتك. فالإسلام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».[3]

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع الخلفاء كامل شهاب (رحمه الله)، ياسين صوفي عبد الله، وأحمد جاسم، ربما في تكية السليمانية، (النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن).

فالإرشاد الحقيقي في الإسلام مبنيّ على احترام الآخر ورحمة كل الناس:

«نحن نرحّب بالكافر الفقير، نحن نرحّب بالكافر المريض، نحن نرحّب بالكافر اليتيم. نحن نخدم كل البشرية. إن الإسلام لم يفرّق بين الناس، ولكنه خدم جميع البشرية. فالرسول ﷺ هو رسول الرحمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/107). حين يأتي يتيم نصراني وتخدمه، قد يصبح مسلماً. حين يأتيك فقير نصراني وتخدمه ويرى بأنك مسلم وتخدم الفقراء، قد يميل قلبه إلى الإسلام فيصبح مسلماً. يجب أن تجذب أفعالنا الناس إلى الإسلام. يجب أن نعطف على الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل، لأن الرسول ﷺ، وسيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي لم يطردوا اليهودي أو النصراني أو المجوسي. لم يطردوهم، بل خدموهم كبقية المسلمين. لهم دينهم ولنا ديننا».[4]

وكما يعلّمنا مشايخنا بكلامهم، فكذلك يرشدونا بأعمالهم. كانت امرأة نصرانية كبيرة السن محتاجة تأتي إلى التكية في بغداد طلباً للطعام، فكان المسؤولون عن التكية يعطونها حاجتها. ولكن قال أحدهم لشيخنا بأن لباس هذه المرأة لم يكن محتشماً بشكل يليق بالتكية، فأجابه بأن يتركوها وشأنها ولا يمنعوها من المجيء إلى التكية فعسى أن يهديها الله.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يعطي بيعة الطريقة في محل إقامته خلال زيارته لندن (النصف الثاني من عام 2000).

وتبيّن الحادثة التالية ما يشير إليه شيخنا عن دور التسامح والرحمة في هداية الناس. كان شيخنا حاضراً في حلقة ذكر حين التحق بها شخص من الواضح أنه كان مخموراً، لكن الخليفة المسؤول عن إدارة الحلقة سمح له بالمشاركة في الذكر. بعد انتهاء الذكر، ذهب هذا الرجل إلى الخليفة واعترف له بأنه كان مخموراً وطلب منه أن يأخذوه ليغتسل ويتوضأ ليأخذ بعدها البيعة. فلو طُرِدَ الرجل من الذكر لبقي على حاله، ولكن التسامح والصبر الذي عاملته به الطريقة قاداه إلى المغفرة والهداية.

كما كان يزور الكثير من رجال الدين المسلمين غير المتصوّفين ورجال الدين من الأديان الأخرى شيخنا، فيرحب بهم ويكرمهم ويناقش معهم مختلف المواضيع ويتبادل معهم الآراء. وجهود شيخنا هذه هي من باب الإرشاد إلى الدين وكذلك من باب الحرص على الحفاظ على علاقات طيبة مع أهل المذاهب الإسلامية المختلفة وأصحاب الأديان الأخرى وتشجيع روح التسامح والسلام والحوار ونشرها في المجتمع.

وكان شيخنا يكرر توجيهاته للمريدين بالابتعاد عن «الظلم، والخيانة، والتجسّس، والقتل» لأن هذه الأفعال هي «حرامٌ في الإسلام، حرامٌ في الطريقة».[5] كما حثّ على «خدمة الفقراء، واليتامى، والمساكين، والمعوّقين، والوطن، وعدم اللجوء إلى التخريب، والظلم، والقتل، والخيانة، والجرائم، لأنها حرام في الطريقة».[6]

 

[1] البيهقي، شُعَبْ الإيمان، ج 1، ح 409، ص 367.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 11 كانون الثاني 2012.

[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 11 كانون الثاني 2012.

[4] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 14 تموز 2000.

[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 5 أيلول 2012.

[6] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 5 كانون الأول 2012.

 

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share