الفصل (4) البَيْعةُ: اللَّمْسَةُ الرّوحِيَّةُ

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في مجلسه في تكية بغداد (النصف الأول من التسعينيات).

«يا غلام، عليك بإخلاص العمل لله عز وجل في صلاتِك وصيامِك وحَجِّك وزكاتِك وجميع أفعالِك. إتَّخذْ عنده عهداً قبل وصولك إليه. ما هذا العهد إلاّ إخلاصاً، وتوحيداً، وسُنّةً، وجماعةً، وصبراً، وشكراً، وتفويضاً، وللخلق رفضاً ولَهُ طلباً، وعن غيره إعراضاً وعليه إقبالاً، بقلبِك وسرِّك. فلا جَرَم يُعطيك في الدنيا قُرباً، وفي الكُلِّ زُهداً، وله حُبّاً، وإليه شوقاً، وفي الآخرة يُعطيك من قُربِهِ ونِعَمهِ ما لا عَينُ رأَت، ولا اُذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر».

الشيخ عبد القادِر الگيلاني (جلاء الخاطر، ص 31)

إن سلوك الطريق الصوفي باتّباع شيخ كامل وارث لأحوال الرسول ﷺ يبدأ بأخذ الشخص للبيعة باليد مع الشيخ أو أحد خلفائه، ويقوم طالب البيعة بترديد عهد الطريقة بعد الشيخ أو الخليفة الذي يُعلِن فيه اتخاذه شيخ الطريقة الحاضر، الذي ينوب عن الرسول ﷺ ومشايخ الطريقة، مرشداً. وهذه البيعة هي تحقيق لبيعة المسلمين الأوائل للنبي ﷺ التي وصفها القرآن الكريم:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح/١٠).

﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح/١٨).

ورغم أن البيعة تكون مباشرة يداً بيد، فإن من التجديدات التي تلائم العصر التي استحدثها الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد لتيسير أمور الدين للناس، عملاً بالآية الكريمة «يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (البقرة/185)، هي أذنه بإعطاء البيعة عن طريق الهاتف لمن لا يوجد في منطقته خليفة يأخذ منه البيعة باليد أو يصعب عليه السفر. وهذا أيضاً تيسير لأخذ البيعة في أقرب فرصة ممكنة وعدم تأجيله، فلا يدري المرء إذا أجّله إن كانت ستتاح له الفرصة في المستقبل. فرغم «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِيّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»،[1] كما قال ﷺ، فمن الأفضل تحقيق كل نيّة خير في أقرب فرصة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر (التسعينيات).

تمثّل البيعة أيضاً إعلاناً من المريد بالتوبة التي هي أولى مقامات التصوّف، فلا سير إلى الله من غير توبة. ومن الكرامات التعليمية التي تكشف دور البيعة في تنقية المريد هي أن كَفّي الشيخين إسماعيل الوِلْياني وعبد الكريم شاه الكَسْنَزان كانتا أحياناً تسودّان لمدّة بعد إعطائهما البيعة، وكأن يد الشيخ ساعدت المريد على طرح سيّئاته ليبدأ رحلته إلى الله. فالبيعة هي بمثابة تجديد المسلم لإسلامه. كما روى شيخنا بأن يد والده الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان كانت أحياناً تتورّم بعد إعطائه للبيعة ويسودّ لونها. ونرى هذه الحسّاسيّة الروحية ليد شيخ الطريقة في كرامات أخرى، منها أنه حين كان بعض الدراويش يقبّلون يد الشيخ عبد الكريم فإنه كان أحياناً يشعر وكأن حية قد لدغته أو لامس يده تيار كهربائي، ولكنه كان يشعر بالإحراج من منع الناس من تقبيل يده.

وأطلق الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان على بيعة الطريقة وصف «اللمسة الروحية»، لأنها تربط مُريدَ القُربِ إلى الله روحياً بالشيخ الحاضر، المرتبط بدوره روحياً بشيخه، وهكذا مروراً بسلسلة مشايخ الطريقة إلى الرسول ﷺ المرتبط روحياً بالله. ويؤكّد شيخنا بأنه لا يمكن لأي خليفة إعطاء البيعة إلى شخص ما إلا إذا حضر روحياً أحد مشايخ الطريقة إعطاء البيعة.[2]

فأخذ البيعة هو حدث كبير الشأن لأن لهذه الصلة الروحية تأثير مستمر على حياة المريد، سواء شعر به أم لا. وأحياناً يرى المريد دلائل على هذه الصلة الروحية بمجرد أخذه للبيعة. ففي سنة 2012 كان وكيل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد في الهند، الخليفة عماد عبد الصمد، يرشد في إحدى قرى ولاية تاميل نادو في الهند حين أسلم على يده عدد من الهندوس من الرجال والنساء وأخذوا بيعة الطريقة. أثناء أخذهم لعهد الطريقة، أخذت إحدى النساء بالبكاء. وبعد اكتمال أخذ البيعة، تبيّن بأن سبب بكاء المرأة هو رؤيتها فوق رأس الخليفة لباز كان حين يرفع رأسه يصل إلى السماء، وحين يخفضه يصل إلى رأس الخليفة، علماً بأن الباز هو أحد رموز الشيخ عبد القادِر الگيلاني الذي من أشهر ألقابه «الباز الأشهب». فهذا دليل على أن بيعة الطريقة ربطت هذه المرأة روحياً بالشيخ عبد القادِر الگيلاني، لأنه أحد مشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة. ومن المُلاحَظ أن الناس الآخرين الذين كانوا يأخذون البيعة معها لم يروا ما رأت، فاختُصَّت بهذا الكشف. وأصبحت هذه المريدة مرشدة نشطة جداً وجلبت إلى الطريقة الكثير من الهندوس، بما في ذلك أخواتها الثلاث وأزواجهنّ، وحتى مسلمين ممّن كانوا يرفضون ويكفّرون التصوّف، الجانب الروحي للإسلام.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يؤم الصلاة في مسكنه في لندن وفي الصف الأول ورائه نجله الأكبر وشيخ الطريقة الحالي الشيخ نهرو (منتصف 2000).

والصلة الروحية بمشايخ الطريقة التي تمثلها البيعة تساعد المريد في ترقّيه الروحي. وأحياناً يمكن أن يكتسب المرء فوائداً روحيةً فور أخذه لبيعة الطريقة وقبل أن يمارس أذكارها. ففي إحدى الليالي جاء إلى تكية الشيخ إسماعيل الوِلْياني (1670-1745) في شمال العراق راعٍ جَذَبَ بضخامة جسمه وخشونة ملابسه انتباه مجموعة من الدراويش في التكية. فلما سألوه عن شأنه، أجاب بأنه قد جاء ليأخذ بيعة الطريقة من الشيخ. وبدا الراعي رجلاً بسيطاً، فأراد أحد الدراويش المزاح معه، فقال له بأن أخذ البيعة ليس بهذه البساطة وأن له شروطاً. فلما سأل الرجل عنها، قال له بأنه يجب أن يجلس في حوض ماء التكية إلى الفجر، وبعد أن يصلي الشيخ صلاة الفجر يعطيه الطريقة. وكان الوقت شتاءً والجو بارد جداً، ولكن حرص الرجل على أخذ البيعة جعله يجلس في الماء البارد الذي غطى جزءاً كبيراً من جسمه. وبقي الراعي في هذا الحال إلى وقت الفجر حين خرج الشيخ إسماعيل الوِلْياني في طريقه إلى مكان الوضوء قبل صلاة الجماعة. وسمع الراعي الشيخ يسأل أحد الدراويش إن كان حان وقت الصلاة فأجاب الدرويش بأنه لم يكن متأكّداً، فأجاب الراعي من موضعه مؤكداً حضور وقت الصلاة. فلما لاحظ الشيخ جلوس الرجل في الحوض سأله عن أمره، فأجاب الرجل مُعرِّفاً نفسه ومبيّناً بأنه قد جاء لأخذ البيعة. فعاد الشيخ لسؤاله عن سبب جلوسه في حوض التكية في ذلك البرد القارس، فأجاب الرجل بأن بعض الدراويش قالوا له بأن من شروط أخذ للبيعة أن يجلس في حوض التكية إلى الصباح حين يأتي الشيخ ويعطيه البيعة. ثم سأله الشيخ عن كيف علِمَ بأن صلاة الفجر قد قامت، فأجاب الرجل بأنه سمع أذان الصلاة في العرش! فأعطاه الشيخ البيعة. ويعلّق الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان على هذه الكرامة قائلاً: «وهكذا بسبب العقيدة القوية، والإيمان الراسخ، والتوجّه الصحيح، والإرادة، والتسليم وصَلَ هذا المريد (إلى مراتب روحية رفيعة) في ليلة واحدة»،[3] حتى قبل تحقّق نيّته بأخذ البيعة.

وهذه كرامة أخرى حدثت في مدينة البصرة عام 1980 تبيّن حصول كشفٍ روحي للمريد بمجرد أخذه للبيعة. لم تكن هنالك في ذلك الوقت بناية متخصّصة كتكية في البصرة، فكان بعض الدراويش يجتمعون في بيت خليفة اسمه «إبراهيم» للذكر والإرشاد. كانت قوات الأمن تضايق الدراويش، فكانوا يجتمعون للذكر وهم على حذر ويتفرّقون بمجرد ما يروا إحدى سيّارات الأمن قريبة من المكان. وفي أحد الأيام بعد أن انتهى أحد الأشخاص من أخذ البيعة في البيت سأل الدراويش الجالسين معه بتعجّب: «لماذا لم تبنوا جدراناً للبيت، على الأقل للحماية من البرد والمطر؟» ثم قال وهو يبدي قدراً أكبر من الدهشة: «ثم كيف يقوم هذا السقف من غير حيطان تسنده؟» طبعاً كانت الحيطان مبنية بشكل كامل، ولكن الذي حدث هو أن بصره أصبح فجأة قادراً على رؤية الشارع الذي يطلّ عليه البيت وما يجري فيه وكأن الجدران لم تكن موجودة. وبينما كان المريدون لايزالون يحاولون فهم ما قال، استرسل منبّهاً إيّاهم إلى سيّارات أمن قادمة إلى المنطقة. حينئذ أدركوا بأن هذه كرامة مكّنته من رؤية خطر غفلوا عنه، فتفرّقوا قبل أن يصل رجال الأمن ويعلموا بتجمّعهم للذكر والإرشاد.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة مقام الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

وهذه الرابطة الروحية بين الشيخ والمريد ليست علاقة عشوائية، وإنّما تعود جذورها إلى عالم الروح. ومما يبيّن ذلك هو أنه أراد اثنان من طلّاب الشيخ كاكا أحمد الشيخ (ت 1887) أن يأخذا البيعة منه. ولكنه أعطى البيعة إلى أحدهما، الذي أصبح فيما بعد الولي الكبير حسن القَرَه چواري، بينما قال للآخر بأنه مكتوبٌ له أن يأخذ البيعة من الشيخ عبد الكريم شاه الكَسْنَزان لا منه ولا من أي شيخ آخر. وذهب هذا، واسمه أيضاً «حسن»، إلى شاه الكَسْنَزان في قرية كَرْبْچْنَه وأخذ منه البيعة. وأمر شاه الكَسْنَزان مريده بالانتقال للعيش في قرية «كاني چْنار»، التي تقع بين قضاء[4] چَمْچَمال وقرية كَرْبْچْنَه في محافظة السليمانية، واشتهر بسببها بلقب «حسن كاني چْنار». كما كان يُطلَق عليه أيضاً لقب «حسن الخليفة»، كونه من خلفاء شاه الكَسْنَزان. وظهرت على يده الكثير من الكرامات، ومنها أن تلك المناطق كانت معروفة بكثرة السرقات، ولكن بعد فترة من انتقاله للعيش فيها توقفّت السرقات لأنه كان يخبر من يُسرَق منه شيءٌ عن هويّة السارق. وأصبح الخليفة حسن من كِبار الأولياء.

وأخذ البيعة أمر قدري، إذ لابد أن تتيسّر الظروف لمن كُتِبَ له أخذها، بينما لا يمكن لأحد أن يفرضها لمن لم يكن له حظ فيها. وفي تاريخ الطريقة عدد لا يُحصى من الحوادث التي تبيّن هذه الحقيقة. ومنها أن خليفة اسمه «طه» كان في مخزنه الصغير الذي يبيع فيه حاجيات منزليّة حين ألقت الشرطة القبض عليه بحجة بيعه لقنينة حليب بسعر يتجاوز قليلاً التسعيرة الرسميّة، ووضعته في الحجز. فالتقى هنالك رجلاً كان قد قضى في السجن حوالي السنتين، فأخذ السجين يسأله عن نفسه وظروف سجنه، كما يحدث عادة حين يأتي سجين جديد. وأثناء الكلام أخبر الحاج طه صاحبه بأنه خليفة الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان، ففاجأه السجين بالقول بأنه كان يطلب منذ ستّة أشهر أن ييسّر الله له أخذ البيعة من الشيخ عبد الكريم. فعلم الخليفة بأن هذا هو سبب حجزه، وأعطى البيعة إلى السجين. ولم يقضِ الخليفة طه سوى ليلة واحدة في الحجز، حيث أُطلِقَ سراحه في اليوم التالي من دون تفسير أو ملاحقة قانونية. وتذكّرنا هذه الحادثة بقول النبي ﷺ: «لو أن المؤمن على قِمّة جبل لقيّضَ الله تعالى له عالماً يعلِّمَه».[5]

بينما تبيّن حوادث أخرى بأنه ليس للبعض حظ في أخذ البيعة. ومنها أن خليفة اسمه «مُحَمَّد محمود» كان يتمنّى لرجل دين شاب طيّب من مدينته، چمچمال، أخذ بيعة الطريقة، وذكر ذلك للشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان أكثر من مرّة خلال زياراته له في كركوك، ولكن الشيخ لم يعلّق شيئاً. وفي إحدى الزيارات أخبر الشيخ عبد الكريم بأن رجل الدين قد طلب منه أن يوصل سلامه إلى الشيخ وأنه وعده بأنه سيأتي معه في المرّة القادمة التي يذهب فيها لزيارة الشيخ ويأخذ البيعة. فأجابه الشيخ بما معناه: «يا بني، من الناس من ليس له حظ في أخذ البيعة، فحتى إذا جاء طالباً لها فإنه لا يأخذها». حين عاد الخليفة مُحَمَّد إلى مدينته علِمَ بأن الرجل قد تعرّض إلى حادثة سيارّة أودت بحياته! وفي زيارته التالية للشيخ عبد الكريم أخبره بما حدث، فذكّره الشيخ بما قاله له بأن البيعة هي من نصيب البعض من الناس فمن لم تكن البيعة من نصيبه لا يأخذها حتى وإن بدا في وقت ما بأنه مصمِّم على أخذها. ومما يؤكّد هذه الحقيقة هو أن تجد أحياناً شخصاً يضع يده في يد الخليفة ويردّد وراءه كل عهد الطريقة حتى لا يبقى له سوى أن يقول كلمة «قَبِلْت» ليؤكّد قبوله لعهد البيعة الذي ردّده وراء الخليفة، ولكنه يسحب يده من يد الخليفة ويرفض إكمال أخذ البيعة بقول كلمة «قَبِلْت». ويستشهد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بالآية الكريمة التالية وهو يشرح قدريّة البيعة: ﴿وَاللَّـهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ﴾ (البقرة/105).[6]

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع وكيله العام والشيخ الحاضر شمس الدين مُحَمَّد نهرو ومجموعة من الدراويش في ليلة المولد النبوي الشريف وفقاً للتقويم الميلادي، عمان، الأردن (1 أيار 2017).

ومن الكرامات التي تبيّن ارتباط الدرويش بشيخ معيّن بالذات وقدريّة أخذه لبيعة الطريقة هي كيفية أخذ البروفسور الدكتور حسن أحمد حامد (رحمه الله)، أحد كبار علماء الدين في السودان، لبيعة الطريقة الكَسْنَزانيّة، وقد رواها لي ابنه الدكتور عبد الرحمن. كان الدكتور حسن من عائلة صوفية سلكت عدة أجيال منها منهج الطريقة الإدريسيّة، التي تُعرَف أيضاً بالطريقة الأحمدية، نسبة إلى الشيخ أحمد بن إدريس (1758-1837م)، أحد مشايخ التصوّف من المغرب. ولكن لسبب ما، لم يتّبع الدكتور حسن خطى أجداده في أخذ بيعة الطريقة الإدريسيّة أو أية طريقة أخرى. وفي ليلة من رمضان عام 1978، كأنها ليلة القدر في السابع والعشرين، رأى في المنام الشيخ عبد القادِر الگيلاني يأخذ بيده ويدخله الجنّة ويطوف به في أرجائها. حدثت هذه الرؤيا بعد ستة أشهر من انتقال مشيخة الطريقة الكَسْنَزانيّة إلى الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، الذي كان حينئذ في خلوته الأولى في شمال العراق، ولكن الدكتور حسن لم يكن قد سمع بالشيخ أو حتى بالطريقة الكَسْنَزانيّة.

بعد ستة عشر عاماً، أي في عام 1994، رأى البروفسور حسن الشيخ عبد القادِر الگيلاني في المنام مرّة ثانية. ظهر الشيخ هذه المرة في هيئة عظيمة وحجم هائل، حتى بدت قدمه بحجم القاعدة التي تسند الجسر، وقال له ما معناه: «يا ولدي، خذ طريقتنا وانشرها في بلدك». أحتار البروفسور حسن في تفسير الرؤيا، خصوصاً وأن الطرق القادِرية منتشرة في السودان. فذهب بعد ثلاثة أيام إلى البروفسور الشيخ محمد علي الطريفي، الذي كان من اتباع الطريقة القادِرية. وكان الشيخ الطريفي عميد كلية القرآن العظيم في جامعة القرآن العظيم والعلوم الإسلامية في أم درمان، التي كان الدكتور حسن عميداً لكلية الشريعة فيها. طلب حسن من الطريفي أن يعطيه الطريقة القادِريّة لأنه قد جاءته الإشارة بأن يرشد إليها. إلا أن الأخير رفض طلبه وقال له بأنه طريقته لن تكون منه وأنها ستأتيه في حينها.

بعد حين دعت جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية قارئ القرآن العراقي المعروف الحاج علاء الدين القيسي (رحمه الله)، رئيس الرابطة العالمية الإسلامية للقراء والمجودين، لزيارتها. وحين وصل الحاج علاء الدين إلى الجامعة كان مديرها البروفسور الدكتور أحمد علي الإمام مشغولاً، فطلب من البروفسور حسن، كونه عميد كلية الشريعة، أن يستقبل الضيف نيابة عنه حتى ينتهي من أشغاله. فما أن جلسا حتى شعر البروفسور حسن بروحانية الشيخ عبد القادِر الگيلاني بينهما، فبادر بسؤال الحاج علاء الدين إن كان قادِريّاً. فأجابه بأنه من خلفاء الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، أستاذ الطريقة العليّة القادِريّة الكَسْنَزانيّة، وأنه مُكلَّف من قبل الشيخ بإعطاء البيعة. وأهدى الحاج علاء الدين مسبحةً إلى البروفسور حسن، الذي مدّ يده وطلب أخذ بيعة الطريقة، فأعطاه الحاج علاء الدين البيعة. وكما أمره الشيخ عبد القادِر الگيلاني، لعب البروفسور حسن دوراً كبيراً في نشر الطريقة الكَسْنَزانيّة، طريقة الشيخ عبد القادِر الگيلاني، في السودان.

إن المريد السالك للصراط المستقيم الذي تفرضه هذه اللمسة الروحية يختبر بنفسه الأجر العظيم التي تشير إليه آية المبايعة، بما في ذلك الحصول على واردات روحية. قال شيخنا:

«من المهم أن يلتزم الخليفة والمريد ويحافظ على هذه البركة، اللمسة الروحية التي لديه، وان شاء اللَّه خلال السلوك سترون بأعينكم وتلمسون بأرواحكم، وفي أوقات العبادة، وأوقات الدعاء، وأوقات السجود والركوع لله سبحانه وتعالى، وأوقات الذكر، بركة هذه اللمسة الروحية».

واسترسل شيخنا مشبّهاً البيعة بالنبتة الروحية التي تحتاج إلى رعاية واهتمام لكي تنمو وتزهر:

«إن هذه النبتة الروحية التي انزرعت في قلبك يجب أن تُروى بماء العبادة، تُروى بالصدق، تُروى بالحق، تُروى بالشريعة المُحَمَّدية، تُروى بالسجود والركوع، تُروى بالنظافة، بعدم الظلم، بعدم الاعتداء، بالعبادة، بتطبيق الشريعة، لأن الشريعة عندنا هي إطار الطريقة. الشريعة كالخريطة، فيجب أن تمشي حسب الشريعة المُحَمَّدية ﷺ، وتطبّق ما أمر الرسول ﷺ لأنه مأمور من اللَّه سبحانه وتعالى: ﴿بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ (المائدة/67)».[7]

وقال أيضاً عن نبتة البيعة الروحية:

«فشيخ الطريقة يربط الناس بحضرة الرسول ﷺ، فتنتقل النبتة الروحية من يد إلى يد، إلى يد الشيخ إلى يد الخليفة إلى يد المريد. هنالك نبتة روحية تنتقل إلى يد المريد من حضرة الرسول ﷺ، من الله سبحانه وتعالى. أنت لا ترى هذا النبتة ظاهرياً، ولكن إذا أصبحت من أهل الباطن تراها. هنالك نور منتقل من فلان إلى فلان إلى فلان، إلى يد هذا المريد، فينزل هذا النور في قلبه. فإذا سَقى هذا النور بذكر الله، بذكر الرحمن، يكون مثل شجرة طيبة: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾. فهذه النبتة الروحية النورانية تنتقل من يد شيخ إلى شيخ إلى شيخ، إلى الشيخ الحاضر، إلى يد المريد، إلى قلب المريد. هذا ما يحدث من الناحية الروحية. فإذا سَقى المريد هذه النبتة الروحية بنور الذكر فإنها تنمو إلى شجرة، كما يقول القرآن: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم/24-25)».[8]

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع مجموعة من الدراويش، المكان غير معلوم، (تسعينيّات القرن الماضي).

وكان شيخنا يؤكّد بأنه حتى إذا رأى المرء نفسه يأخذ البيعة في المنام فإن من الضروري تحقيق الرؤيا بأخذ البيعة يقظةً من الشيخ. ومما يعنيه هذا هو أنّ اتّباع الطريقة يتطلب السلوك على يد شيخ حي لكي يأخذ المريد البيعة على يده، فلا يمكن للمرء اتباع شيخ موجود في عالم الروح فقط. لذلك لا يجوز للإنسان أن يقول بأن شيخه هو الإمام علي بن أبي طالب، أو الشيخ عبد القادِر الگيلاني، أو الشيخ أحمد الرفاعي، أو غيرهم من المشايخ غير الموجودين في عالم الظاهر. فلو لم يكن هذا الحال، لكان الرسول ﷺ هو أستاذ المسلمين الوحيد ولما كانت هنالك سلاسل مشايخ مرتبطة به ﷺ. ومثلما لا يمكن للمريد أن يسلك إلا على يد شيخ حي، فكذلك لا يصل شيخ الطريقة إلى مرتبة المشيخة إلا باتّباع شيخ حي وبتعيينه خليفة له على سجّادة الطريقة.

وتأتي ضرورة أن يكون الشيخ حياً في الدنيا من حقيقة أن تربيته للمريد تأخذ شكلين: ظاهري وباطني. وقد شرحنا فيما تقدّم أن التربية الباطنية هي منح الشيخ للمريد حال التزكية عن طريق تأثيراته الروحية، التي منها ما يصل المريد مهما كان بعده المكاني عن شيخه طالما كان قريباً منه قلبياً، ومنها ما يصله عن طريق زيارته للشيخ والنظر إليه، وكلاهما يتطلبان وجود الشيخ في عالم الظاهر. أما التربية الظاهرية فهي التعليمات والتوجيهات التي يعطيها الشيخ إلى المريد، بلغة اللسان أو بالإشارات اللطيفة، وسواء جاءت بمبادرة الشيخ أو استجابة منه لاستفسارات وطلبات المريد. ففي هذه الحالة أيضاً نجد من الضروري أن يكون المريد قادراً على التواصل مع شيخه ظاهرياً. إذا لا يمكن للمريد أن يسير على الطريقة من غير أن يكون الشيخ الذي يتّبعه موجوداً في عالم الظاهر. وهنالك أعداد لا تُحصى من الحوادث على مر التاريخ نرى فيها مريداً يسافر مسافاتٍ شاسعة لكي يأخذ البيعة على يد شيخ معيّن. وقد تطرّقنا سابقاً إلى حالة شبيهة في سفر نبي الله موسى بحثاً عن سيدنا الخَضِر ليتّخذه معلّماً.

وهنالك الكثير من السلوكيّات الإسلامية من فرائض ومُستَحَبّات كان شيخنا يعلّمها للمريد بشكل ظاهري، نذكر منها على سبيل المثال تقديسه الاستثنائي للقرآن العظيم. فالمسلمون بشكل عام يعاملون كتاب الله بكل وقار، كعدم لمسه إذا لم يكونوا على وضوء، ولكن من مظاهر تبجيل أستاذنا للقرآن الكريم غير المعروفة حتى بين المسلمين هي الوقوف لكتاب الله احتراماً. فحين يدخل شخص يحمل مصحفاً إلى مجلسه فإنه يقوم احتراماً للقرآن. وحين أشرتُ يوماً إلى جمال هذا السلوك الفريد لمشايخنا، علّقَ أستاذنا تأكيداً على أهميته:

«هل يجوز لأي شخص أن يبقى جالساً حين يُجلَب كلام الله ولا يقوم احتراماً له؟ من أعظم من الله سبحانه وتعالى؟ ما أعظم من كلام الله سبحانه وتعالى؟ لا أحد ولا شيء. أنت تقوم لصديقك حين يأتيك، فكيف لا تقوم للقرآن؟ هذا كتابك، مقدّساتك، تعاليمك، كلام الرب، كلام الخالق، فتقديسه واجب».[9]

فإذا زار أحدهم شيخنا حاملاً مصحفاً، مثلاً ليهديه إليه، فإن الدرويش القائم على خدمته يُخبِره بذلك ليكون مستعداً للقيام احتراماً لكتاب الله حين دخول الزائر. ومن الكرامات الجميلة التي تعبّر عن هذا السلوك الخلّاب أنّه كان شيخنا يوماً في تكية بغداد وحوله عدد من الدراويش حين دخل إلى المجلس أحد المريدين وتوجّه نحوه يريد زيارته. ولكن قبل أن يصل الشاب إليه، نهض أستاذنا من على كرسيّه، فوقف الحضور، الذين لم يفهموا سبب قيامه، ولكنّ اتّضح الأمر حين بادر شيخُنا الزائر بالقول: «يا بني، كيف تأتي لزيارتي وفي جيبك مصحف»؟ ويبدو أن هذا المريد لم يكن على دراية بآداب تعامل شيخنا مع القرآن العظيم أو أنه نسي وجود المصحف في جيبه، فاعتذرَ وأكمل زيارته له. وهذه كرامة تعليمية، فربّما كان هنالك آخرون في المجلس لم يكونوا على علم بسلوك شيخنا هذا، فعرّفتهم الكرامة بذلك وبيّنت لهم بأن المسلم يجب أن يقدّس القرآن ليس باطناً فقط، ولكن ظاهراً أيضاً، وليس فقط لنص كتاب الله، ولكن للمصحف نفسه كذلك.

[1] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 1، ص 49.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 1 نيسان 2013.

[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 19 شباط 2015.

[4] ينقسم العراق إدارياً إلى محافظاتٍ، وتتكون كل محافظة من عدد من الأقضية، ويحتوي كلٌ قضاء على عدد من النواحي.

[5] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 47.

[6] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 8 شباط 2016.

[7] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 4 آذار 2013.

[8] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، الثلث الأخير من 10/2013.

[9] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 18 أيلول 2016.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share