الفصل (20) الرِّياضَةُ الرّوحِيَّةُ: جِهادُ النَّفْسِ في سَبيلِ اللهِ

Share

غار حِراء أعلى جبل النور في مكّة المكرَّمة الذي كان يختلي فيه الرسول مُحَمَّد ﷺ (تاريخ الصورة 18/نيسان/2006).

«ينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه في تحسين خُلُقه ويُلزِمها به، كما يجاهدها في بقيّة الطاعات، فإن دأبها الكِبر والغضب وحقارة الناس. جاهدوها حتى تطمئن، فإذا اطمأنّت تواضعت وذُلّت وحَسُن خُلُقها وعرفت قَدْرها واحتملت من غيرها. قبل المجاهدة هي فرعونة. طوبى لِمَن عرف نفسه وعاداها وخالفها في جميع ما تَأمُر به. أَلزموها ذكر الموت وما وراءه وقد ذُلَّت وحَسُن خُلُقها. إمنعوها الحظوظ وأوفوها الحقوق وقد ذُلَّت وحَسُن خُلُقها وعرفت قَدْرَها. خُذوها بيد الفكر وأدخلوها النار والجنّة حتى ترى ما فيهما وقد ذُلَّت وحَسُن خُلُقها. تفكّروا في يوم القيامة، أقيموها على أنفسكم قبل أن تقوم».

الشيخ عبد القادِر الگيلاني (جلاء الخاطر، ص 40)

تعني كلمة «رياضة» في التصوّف «تربية» و «تهذيب» و «تدريب» النفس و «السيطرة» عليها، وتشير إلى أشكال من المجاهدات من النوافل، أي العبادات الطوعية، يستمر عليها الشخص لفترة من الزمن. وتأخذ ممارسات الرياضة أشكالاً مختلفة، كالصوم في غير شهر رمضان الذي صومه فرض، والامتناع عن أكل المنتجات الحيوانية ومشتقّاتها، والتقليل من الكلام في الأمور الدنيوية. ويؤدي ترويض النفس إلى صرفها عن السلوكيّات الخاطئة وتحبيب الطاعات إليها والتقرب إلى الله. وبذلك يتنوّر قلب المريد ويصفو، ويبدأ في تذوّق الخبرات الروحية الفريدة في الطريقة. ولإن مجاهدة النفس وترويضها لتقريبها من طاعة الله عز وجل تأتي بأشكال مختلفة يستطيع المسلم أن يختار منها ما له طاقة عليها، فإن ممارسة الدرويش للرياضة الروحية لا تحتاج لإجازة خاصة من شيخ الطريقة. ويحثّ مشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة المريدين على ممارسة الرياضة لأن جهاد النفس هو أساس الحياة الصوفيّة.

وعلى المريد أن يخفي ما استطاع كونه في رياضة، حفظاَ لقلبه من أية تأثيرات سلبية يمكن أن تسببها معرفة الناس بأمره، لكي يكون كل عمله لله وليس فيه رياء للناس. ومارس الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان حيناً الرياضة لمدة ستة أشهر من غير أن يعلم به أحد. وكان يخرج إلى الصيد خلال تلك الفترة، وحين يصطادون الطيور والحيوانات كان يطلب أن يُشوى البعض ويُقلى الآخر، وكان يجهّز نفسه للأكل مع الناس ويجلس معهم ولكنه كان يتجّنب أكل تلك اللحوم من غير أن يشعر به أحد. ولم يكشف هذا الأمر إلا لاحقاً ليعلّم المريدين أهمية أن يكتموا عباداتهم فلا تجذب نظر الناس، لتكون خالصة لله. ومارس كل مشايخ الطريقة الرياضة، وقد تطرّقنا بعض الشيء إلى رياضات السلطان حُسَين الكَسْنَزان التي قلّ مثيلها. ومثلما أن رياضات المريدين هي بتوجيهات مشايخ الطريقة، فإن رياضات المشايخ، كما هي أفعالهم بشكل عام، هي بأوامر من مشايخ الطريقة والرسول ﷺ.

كهف گيلان آوى على جبل سَه گَرمه الذي أختلى فيه شاه الكَسْنَزان لسنتين متتاليتين ومن بعده الشيخ حُسَين في صيف إحدى السنين (تاريخ الصورة 16/تشرين الأول/2022).

ولكن هنالك رياضة روحية فريدة تجمع أنواعاً متعددة من المجاهدات والعبادات مع العزلة عن الناس والانفراد مع الله، وهي الخلوة. فالنبي ﷺ درج على الاختلاء مع ربّه بعيداً عن الناس في غار حِراء لفترات طويلة، حيث جاء عن السيدة عائشة قولها: «حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ. وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ[1] فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ. ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ».[2] وفي رواية أخرى عن أول نزول الوحي يقول ﷺ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي».[3] فالخلوة هي من عبادات الطريقة لأنها سُنّة النبي ﷺ.

كان مُحَمَّد ﷺ يختلي للتعبّد والتفكّر بعيداً عن مشاغل الحياة. وكانت خلواته، حتى قبل نزول القرآن عليه، تحفل بتجارب روحية هي بعض ثمار تلك العزلة مع الله. وهذا المد الروحي من الله هو ما كان يجعله يعود مراراً وتكراراً لمزيد من الاختلاء. وهذا بعض ما يقوله الشيخ عبد القادِر الگيلاني في الخلوة وما يظهر فيها من الأسرار:

«كيف لا يُحب الصالحون الخلوة وقلوبهم قد امتلأت بالأُنس بربّهم عز وجل؟ كيف لا يهربون من الخَلق وقد غابت قلوبهم عن النظر في نفعهم وضرِّهم، ورأت الضرّ والنفع من ربها عز وجل؟ شراب القرب يُحيِيهِم، والصَحو يُميتُهم، وكلام الشوق يُقرِّبهم، واطّلاعهم على الأسرار جنَّتهم».[4]

وكما مرّ بنا، دخل شاه الكَسْنَزان أربعين خلوة، منها سنتين متتاليتين، في كهف گيلان آوى على جبل سَه گَرمه، فيما كانت خلواته الأخرى المتفرّقة لمدّة سنتين في كهف أسفل جبل سَه گَرمه وأخرى في كهف داخل الأرض أمام المسجد الذي بناه في كَرْبْچْنَه. واستخدم حفيده السلطان حُسَين هذين الكهفين مكاناً لخلواته الكثيرة، كما أختلى صيف أحد السنين في گيلان آوى. وفي آخر سنوات حياته كان الشيخ حُسَين في خلوة شبه مستمرّة حتى غدا يُعرَف بلقب «شاه الخلوة». أما الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، فدخل ثلاث خلوات في الأعوام 1978، 1979، 1980.

الخلوة الأولى للشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في كهف في أسفل جبل سَه گَرمه في كَرْبْچْنَه الذي اختلى فيه شاه الكَسْنَزان والشيخ حسين الكَسْنَزان (1978).

وللطريقة الكَسْنَزانيّة نظام خاص للخلوة يحدّده شيخ الطريقة، بما في ذلك تقنين شديد لكمية ونوعية الطعام والشراب. ويستمر المريد في الخلوة بالقيام بأذكاره اليومية والدائمة التي يضيف إليها الشيخ أذكاراً أخرى. وإضافة إلى صلوات الفرض، هنالك عدد من السُنَن التي يجب أن يؤدّيها، ويتوجّب تجنّب التفكير بأمور الدنيا والانشغال تماماً بالعبادات. ويجمع المريد مع قلة الطعام وكثرة الذكر قلة النوم، فلا يجوز له النوم ليلاً، فيجب أن يكون مستيقظاً ومشغولاً بعباداته حتى طلوع الشمس، وبعدها يجوز له النوم لفترة قصيرة. وكثرة الأوراد تتطلّب قلّة النوم على كل حال.

إن الخلوة هي أكثر الرياضات الروحية صعوبة، لأن فيها جهاد أعظم للنفس. ففيها ترك للطعام والشراب والكلام والنوم والناس والعالم بشكل عام، والانشغال الكامل بذكر الله. لكن الجسم البشري والعقل ليسا مهيّئَين طبيعياً لهكذا ظروف قاسية، ولذلك فالخلوة ليست مناسبة سوى لقلّة صغيرة من العبّاد، وفي غياب تدخل خارق يحمي صاحِب الخلوة، لابد أن يتضرّر الجسم والعقل. ولذلك فإن الخلوة في الطريقة الكَسْنَزانيّة لا تجوز إلا بإذن من شيخ الطريقة. وقد مّر بنا كيف اقتصر طعام شاه الكَسْنَزان في سنتي خلوته في گيلان آوى على ما يشبه الطين المخلوط بأوراق الأشجار. ولا يمكن لبشر أن يعيش على هذا طعاماً، ناهيك لفترة بهذا الطول، فمن الواضح أنه كان مُحاطاً بالعناية الإلهية خلال الخلوة.

تُبيّن الصورة العُزلة الكاملة لكهف گيلان آوى على جبل سَه گَرمه حيث أختلى شاه الكَسْنَزان لسنتين ومن بعده الشيخ حُسَين في صيف إحدى السنين. (تاريخ الصورة 16/تشرين الأول/2022).

ويذكر شيخنا بأنه بعد خمسة أو ستة أيام من خلوته الأولى في منتصف عام 1978، بعد حوالي ستة أشهر من جلوسه على سَجّادة الطريقة، كان بعض الدراويش الذين رافقوه يعانون جداً بسبب قلّة الأكل، فقلق شيخنا على صحّتهم وعلى قدرتهم على إكمال الخلوة. ولكنّه مرّ بتجربة روحية أذهبت قلقه وأصلحت حال الدراويش. إذ رأى الشيخ عبد الكريم يحمل بيده فلفلة صغيرة ويشير إليها قائلاً بأنه إذا قال المشايخ للدرويش بأن هذه الفلفلة الحارة الصغيرة كافية له طعاماً ليوم كامل، فليطمئن قلبه بأن هذا هو الحق ولا يخاف، وطلب منه أن يخبر الدراويش بهذا.[5] فأطمأن شيخنا وأخبر المريدين بما قال الشيخ عبد الكريم ونصحهم بأن ينشغلوا بالذكر وينسوا الجوع، فذهب عنهم الإحساس بالجوع.

ويبيّن قول الشيخ عبد الكريم تدخّل الشيخ روحياً لمساعدة المريد على تحمّل المشاق الجسدية والنفسية للخلوة. فتقنين الطعام إلى هذا الحد وتقليل النوم بهذا الشكل، ناهيك عن الجمع بينهما، ليس من قدرات الجسم البشري الطبيعية، فيتطلّب تدخّلاً خارقاً لمساعدة المريد وحمايته من الأذى. ومن أسس النجاح في إكمال الخلوة هو التوكّل على الله والثقة المطلقة بأن شيخ الطريقة لا يأمر إلا بما يُؤْمَر به وما فيه منفعة الدرويش. والتوكّل على الله والطاعة المبنيّة على حسن الظن الكامل بالشيخ هما أساس التطور الروحي للمريد في سلوكه في الطريقة.

الكهف تحت الأرض الذي أختلى فيه شاه الكَسْنزَان ومن بعده الشيخ حسين الكَسْنزَان، وأمامه مسجد كَربْچنْهَ. أمّا البناء الذي أعلى الكهف فبناه الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنزَان لحفظ الكهف. (تاريخ الصورة 19 آذار 2016).

ويعرّض دخول الخلوة الإنسان لتركيز استثنائي لهجمات كائنات شريرة من الجن والشياطين تريد أن تجعله يترك عبادته، وتستهدف هذه المحاولات جسده وعقله، بل وحتى حياته. وتتركّز هذه المحاولات بالذات حين لا يكون المختلي في حالة ذكر، مثلاً حين يكون نائماً أو يقضي حاجاته الجسدية، فلا يكون في حالة عبادة، فيكون في أضعف حالاته الروحية، فتجد الكائنات الشريرة سهولة أكبر في الاقتراب منه ومحاولة إصابته بسوء. وهذه المخاطر، إضافة إلى ما تقدم ذكره من صعوبة الخلوة للجسم والعقل، هي من أسباب عدم جواز دخول المريد في الطريقة الكَسْنَزانيّة للخلوة إلا بإذن من الشيخ، لأنه أعلم بحالته الروحية ومدى أهليته لدخول الخلوة وما يحتاجه من رعاية روحية. وقد مرّ بنا كيف أن دخول الشيخ عبد الكريم شاه الكَسْنَزان للخلوة كان بأمر من شيخه الشيخ عبد القادِر قازان قايه. فحين يأذن الشيخ للمريد بدخول الخلوة فإنه يكون مسؤولاً عن حمايته روحياً ضد الأرواح الشريرة التي تحاول التأثير عليه ظاهراً وباطناً، يقظة ومناماً. ومن كلام الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في هذا الأمر:

«هنالك كثيرٌ من المتصوّفين ممن دخل الخلوة مؤمناً وخرج كافراً. فمن ليس له شيخ، ليس له موجِّه، ليست عنده طريقة، ليست عنده اللمسة الروحية وقوة مشايخ الطريقة، ليست معه هذه الأرواح الطاهرة، أرواح المرشدين، أرواح المشايخ إلى حضرة الرسول ﷺ، فإن الشيطان يؤثّر عليه بالوساوس، في حالات الذكر الخفي وفي حالاتٍ أخرى. يؤثّر عليه ويغويه، فينزلق، فيترك الدين والإيمان والعقيدة في مكان وينتهي في مكان آخر. حدث هذا لكثير من المتصوّفين الذين لم يكن لديهم شيخ. بدأوا بالتصوّف تدريجياً ثم قرروا أن يدخلوا الخلوة، يدخلوا العزلة، فأثرّت عليهم. أحياناً تصيبهم أمراض لا يستطيعون أن يتخلّصوا منها إلى أن يموتوا، أو ينحرفوا عن الطريق ويتّجهوا اتّجاهات شيطانية، ويتركوا الصلاة والصيام ويبدأوا بإطلاق الادّعاءات عن أنفسهم، ويسمّوا أنفسهم «مجذوبين»، وغير ذلك من الكذب والأعمال الشيطانية. وهكذا يغويهم الشيطان ويأخذهم إلى الهاوية». [6]

الكهف الذي في أسفل جبل سَه گَرمه في كَرْبْچْنَه الذي أختلى فيه شاه الكَسْنَزان والشيخ حسين الكَسْنَزان ومن بعدهما الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان ثلاث سنوات متتالية، 1978، 1979، 1980. (تاريخ الصورة 19 آذار 2016).

ويحتاج الدرويش لروحانية الشيخ لحمايته من أخطار أخرى أيضاً. فكثيراً ما رأى الدراويش الذين دخلوا الخلوة مع شيخنا عقاربَ وحيّات في أماكن خلواتهم، ولكنها لم تكن تقترب منهم أو تحاول أن تؤذيهم، كما لم يحاول الدراويش أيضاً أن يؤذوها. وضرورة المختلي إلى الشيخ هي تطبيق واضح للقول المعروف «من لا شيخ له فشيخه الشيطان». ويؤكّد شيخنا بأنه فقط من وصل درجة الولاية يستطيع أن يكمل الخلوة من دون الحاجة إلى شيخ يحميه.[7]

وقد يجد المريد نفسه غير قادر على إكمال الخلوة لسبب أو لآخر فيأخذ إذن الشيخ بتركها. ففي خلوة شيخنا الأولى غادر أربعة دراويش في بدايتها. وفي يومٍ لاحق بعد صلاة المغرب قال شيخنا للدراويش بأن المشايخ قد أخبروه بأن مريداً خامساً سيغادر، وقال لهم بأن ذلك الدرويش له حق أخذ الإذن بترك الخلوة إلى نهاية ذلك اليوم، ولكنه غير مسؤول عن نتائج مغادرة الدرويش للخلوة بعد ذلك الوقت. وبعد صلاة العشاء جاء أحد الدراويش طالباً الإذن بترك الخلوة، فأذن له. فقال شيخنا حينئذ بأنه قد اكتمل الآن عدد دراويش الخلوة، وأكمل باقي المريدين الخلوة.

[1] أي «يَتعَبَّد».

[2] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 3، ص 50.

[3] مسلم، صحيح مُسلم، ج 1، ح 161، ص 144.

[4]الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 76.

[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 21 تشرين الثاني 2018.

[6] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 25 أيار 2000.

[7] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 16 نيسان 2016.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share