الفصل (9) عبدُ القادِرِ الگَيْلاني: الغَوثُ الأعْظمُ، البازُ الأشْهَبُ، مُحْيي الدِّينِ

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان متوجّها إلى ضريح الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

أَنَا الـبازيُّ أشهَـبُ كُلِّ شيـخٍ          ومن ذا في المـلأ أُعـطِيَ مِثالي
أَنَا الجِيلانيُّ مُحيِي الدِّينِ اسمِي           وَأَعـلامِي عَلَى رُؤْسِ الجِـبَالِ
وَعَـبدُ القَادِرِ المَشهُـورُ اسمِي            وَجَدِّي صَاحِبُ العَينِ الكَمَالِ

الشيخ عبد القادِر الگيلاني (القصيدة الخمرية)

الشيخ عبد القادِر الگيلاني هو أصل الطريقة القادِريّة بكل فروعها. وُلِدَ الشيخ عبد القادِر في عام 470 هجري (1077 م) لأبٍ حَسَني وأمٍ حُسَينية. وتذكر معظم المصادر القديمة عن حياته بأن مسقط رأسه كان في گيلان في شمال إيران الحالية،[1] ولكن بعض المصادر تنسبه إلى قرية الجيل على شاطئ دجلة قرب المدائن،[2] ولذلك فإنه يُعرَف بلقب «الگيلاني» أو «الجيلاني» أو «الجيلي». ويدعم نسبته إلى گيلان القول بأن لغته الأم كانت الفارسية، رغم أنه أتقن العربية بشكل كامل بمعجزة للرسول ﷺ.[3]

هاجر الشيخ عبد القادِر إلى بغداد حين كان له من العمر ثمانية عشرة عاما ليكمل تعليمه ويبدأ مسيرة كُتِبَ لها بأن تكون رحلة روحية فريدة. وكانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ولكن الأكثر أهمية هو أنها كانت مركزاً للعلم والثقافة ينبض بمختلف الفعاليات الروحية والفكرية. وكانت هذه الحقبة أيضاً فترة اضطراب سياسي، حيث كان الصليبيون في فلسطين وسوريا وتركيا، وكانت بغداد تحت رحمة السلاطين السلاجقة الذين استعان بهم العباسيون لدرء الأخطار المحيطة.

وفي بغداد صاحَبَ الشيخ عبد القادِر في البدء الشيخ حمّاد الدبّاس (ت 525/1131) وبعده الشيخ أبو سعيد المخزومي (المُخَرَّمي) (ت 513/1119) وأخذ بيعة الطريقة على يده. وكانت للشيخ أبو سعيد مدرسة يدرّس فيها آلَ شأنها إلى الشيخ عبد القادِر في عام 521/1127 فتفرّد بالتدريس فيها. ثم قام بتوسيعها بعد سبعة أعوام فصارت تُنسَبُ إليه. وكان يحاضر في المدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع، وازداد عدد حضور مجالسه بسرعة حتى أصبحت كل موعظة له تجذب الآلاف. واستمر في التدريس في المدرسة حتى انتقاله إلى عالم الروح في عام 561/1165، حيث دُفِنَ في مدرسته. وبسبب مكانة الشيخ وبركته المستمرّة وعدد أتباعه الهائل، أصبح ضريحه والمدرسة من أكثر المعالم الإسلامية قدسيّة وزيارة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة ضريح الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

ودرج الكثير من الطلاب على كتابة محاضراته فحفظوا للتاريخ كلماته. وجُمِعَت بعض مجالس الشيخ عبد القادِر في ثلاثة كتب هي فتوح الغيب، و الفتح الربّاني، و جلاء الخاطر الذي حققه ونشره الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في بغداد عام 1989. وبالإضافة إلى المجالس التي دوّنها عنه حضورها، للشيخ عبد القادِر عددٌ من الكتب، أشهرها الغنية لطالبي الحق، وقصائد وأوراد وصلوات وأدعية، كما هنالك مؤلّفات اختلف الباحثون حول نسبتها إليه.[4]

ومما يعكس المكانة الروحية للشيخ عبد القادِر ودرجة القرب من الله التي وصلها هو عدد كراماته. فلم يُروَ عن شخص في تاريخ التصوّف من الكرامات قدر ما رُوِيَ عنه، حيث كانت الكرامات إحدى وسائله في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام وإرشاد المسلمين وحثّهم على التمسّك بدينهم. وسنستشهد هنا بكرامتين تفسران اثنين من أشهر ألقابه: «محيي الدين» و «سلطان الأولياء».

يروي الشيخ عبد القادِر بأنه حين عاد إلى بغداد من إحدى سياحاته التعبّدية في عام 511/1117، أي حين كان في الأربعين من عمره، قابل شخصاً مريضاً شاحباً نحيف البدن مستلقياً على الأرض بادره السلام: «السلام عليك يا عبد القادِر»، فرد عليه الشيخ السلام. وطلب المريض من الشيخ أن يدنو منه، ففعل، ثم طلَب منه أن يعينه على الجلوس، فأجلسه. حينئذ بدأ جسد المريض بالنمو وتحسّن حاله وعاد إليه لونه، فأوجس الشيخ عبد القادِر خيفة. فسأله الرجل إن كان قد عرفه، فأجابه بالنفي، فقال الرجل: «أنا الدين، وكنت قد مِتٌّ ودُثِرتُ فأحياني الله بك بعد موتي». بعد أن انصرف الشيخ ذهب إلى المسجد فلقيه رجل وضع نعله له وخاطبه قائلاً: «يا سيدي محيي الدين». فلما توجّه الشيخ إلى الصلاة أخذ المصلّون يأتون إليه ليقبّلوا يده وينادوه بلقب «محيي الدين»، ولم يكن قد نودِيَ بذلك اللقب من قبل.[5]

أما لقب «سلطان الأولياء» فمصدره أنه أُمِرَ يوماً بأن يقول «قدمي هذه على رقبة كل ولي لله»، فحنى كل أولياء الأرض حيثما كانوا رقابهم له، بما فيهم الشيخ أبو مدين المغربي، والشيخ أبو نجيب السهروردي، والشيخ عبد الرحيم القناوي، والشيخ علي بن الهيتي، والشيخ أبو سعيد القيلوي، والشيخ بقا بن بطّو وغيرهم. فمثلاً كان الشيخ أحمد الرفاعي في مجلسه في قرية أم عُبيدة، جنوب شرق مدينة واسط في العراق حالياً، حين أحنى رأسه فجأة وقال «وعلى رقبتي»، فلما سُئِلَ عن ذلك أجاب: «قال الشيخ عبد القادِر الآن ببغداد «قدمي هذه على رقبة كل ولي لله»».[6] ويقول الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان تعليقاً على هذه الكرامة الفريدة: «إن قدم الشيخ عبد القادِر على رقبة كل ولي إلى يوم القيامة، فلن يأتي بعده من هو أكبر منه»،[7] أي أنه سلطان أولياء زمانه وما يلي من أزمان. ولما كان مشايخ الطريقة الكَسْنَزانِيّة وارثي الشيخ عبد القادِر الگيلاني، فيُشار إلى كلٍ منهم بالإضافة إلى لقب «شيخ» بلقب «سلطان»، لأن كلّاً منهم هو سلطان أولياء زمانه. فمثلاً يُشار إلى الشيخ حُسَين الكَسْنَزان بلقب «السلطان حُسَين الكَسْنَزان» أيضاً، وهكذا.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة ضريح الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

من المستحيل المبالغة في تقدير تأثير الشيخ عبد القادِر الإرشادي على المسلمين وحجم دوره في نشر الإسلام. فعدد الطرق الصوفية التي تتصل سلاسل مشايخها به يتجاوز بشكل كبير الطرق المرتبطة بأي شيخ آخر، ولذلك يتجاوز عدد أتباع الطرق القادِريّة أتباع غيرها من الطرق. ولقد لعب المتصوفون بشكل عام والقادِريّون منهم على وجه الخصوص دوراً كبيراً واستثنائياً في نشر الإسلام في أفريقيا وآسيا.

ورغم أن كل طريقة صوفيّة لها سلسلة مشايخ تصل إلى أستاذ كل الطرق الصوفيّة النبي مُحَمَّد ﷺ، فقد دَرَجَ التقليد على تسمية كل طريقة على اسم واحد، وأحياناً أكثر، من أكبر مشايخها. ولكننا نرى بأن هذا التقليد لم يبدأ إلا باسم الشيخ عبد القادِر، وهو دليل آخر على مكانته العظيمة وعلّو قدره على كل من تلاه من الأولياء. فاسم «الطريقة القادِرية» كان الأول من نوعه، ثم أخذت باقي الطرق تستخدم هذا الأسلوب في التسمية. فمثلاً «الطريقة الرفاعية»، نسبة إلى الشيخ أحمد الرفاعي، والطريقة الشاذلية، نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، والطريقة الدسوقيّة، نسبة إلى الشيخ إبراهيم الدسوقي، وكل أسماء الطرق إنّما تُحاكي اسم «الطريقة القادِرية». وحتى عندما تكون طريقة مُسمّاة على اسم أستاذ عاش قبل عصر الشيخ عبد القادِر، فإن البحث يبيّن بأن تلك التسمية لم تظهر إلا بعد ظهور تسمية «الطريقة القادِرية». فمثلاً، «الطريقة الجنيديّة» تأخذ اسمها من الشيخ الجنيد البغدادي، الذي عاش قبل الشيخ عبد القادِر بحوالي مئتين وخمسين سنة، ولكن هذه التسمية لم تكن موجودة في وقت الشيخ الجنيد ولم تظهر إلا في وقت ما بعدما ظهر وانتشر اسم «الطريقة القادِرية».

وكذلك نعتقد أن أول مريدين سُمّيوا على اسم شيخ طريقتهم هم مريدو الشيخ عبد القادِر، فأصبح مريده يُعرَف بوصف «قادِري». والشيخ عبد القادِر هو الذي استحدث هذه التسمية والتقليد، كما يخبرنا أحد أبيات شعر قصيدته «الشريفة»:

وكُنْ قادريَّ الوقتِ للهِ مُخلِصاً           تَعيشُ سَعيداً صادقاً بِمَحَبَّتي[8]

واتّخذ البعض هذا الوصف لقباً أيضاً، فأصبح يلقّب نفسه بـ «القادِري». وتبع تلاميذ مشايخ آخرين هذا التقليد القادِري الأصل، فأصبح مريدو الطرق المختلفة يُعرَفون بألقابٍ وأوصافٍ مثل «رفاعي»، و «شاذلي»، و «بدوي». ويجب أن نؤكّد ثانية بأن مفهوم الطريقة وضرورة اتّباع شيخ مرشد هما قديمان قدم الإسلام نفسه، وإن كان أسلوب تسمية الطرق لم يظهر إلا لاحقاً في عصر سلطان الأولياء الشيخ عبد القادِر الگيلاني.

ونرى بأن هذا هو تاريخ لقب «سلطان الأولياء» أيضاً، إذ كان أول ظهوره حين استخدمه الناس للإشارة إلى الشيخ عبد القادِر نتيجة قوله الفريد المشهور «قدمي هذه على رقبة كل ولي لله» وحنى كل الأولياء رقابهم. فالشيخ علي بن الهِيتي، الذي كان من أكثر المشايخ المعاصرين للشيخ عبد القادِر زيارة له وخدمة، حين يذهب مع أصحاب له لزيارته، كان يأمرهم بالوضوء وتنقية قلوبهم وأفكارهم لأنهم سيدخلون على «السلطان».[9] وفيما بعد أخذ أتباع مشايخ آخرين يستخدمون «سلطان الأولياء» لقباً لمشايخهم.

ومن الألقاب التي تفرّد بها الشيخ عبد القادِر ولم تُنسَب إلى غيره هو «الغوثُ الأعظَم». ويرد هذه اللقب في مقدّمة مقالةٍ له تسرد واردات روحية من الله يناديه فيها بتكرار بلقب «يا غوثَ الأعظَم»، ولذلك عُرِفَت المقالة باسم «الغوثيّة».[10] ويبدو أن لقب «غوث» هو الآخر دخل لغة التصوّف بعد أن أصبح لقباً للشيخ عبد القادِر، حيث يشير إلى مرتبة روحية تجعل الولي قادراً على نجدة الناس بشكل خارق للعادة، ولكن بقي لقب «الغوثُ الأعظَم» خاصاً بالشيخ عبد القادِر.

وليس الذي جعل للشيخ عبد القادِر هذه المكانة الفريدة في التاريخ الإسلامي هو جهوده الإرشادية وكراماته في حياته فحسب، ولكن استمرارهما من غير انقطاع إلى يومنا هذا. إذ سار مشايخ فروع الطريقة القادِريّة على خطى الشيخ عبد القادِر في تسخير حياتهم لنشر الإسلام. وكرامات الطرق القادِريّة على مر التاريخ هي استمرار لبركة أستاذها الشيخ عبد القادِر، التي بدورها امتداد لمعجزات نبي الإسلام مُحَمَّد ﷺ. والكرامات الاستثنائية للطريقة الكسنزانية، التي يذكر هذا الكتاب بعضها، هي دليل حي على استمرار بركة الغَوْثِ الأعْظم.

[1] ابن رجب، الذيل على طبقات الحنابلة، ج 2، ص 189؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 20، ص 439؛ العُلَيمي، المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، ج 3، ص 216.

[2] الشطنوفي، بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، ص 115.

[3] التادفي، قلائد الجواهر، ص 13.

[4] زيدان، عبد القادِر الجيلاني، ص 89-104.

[5] التادفي، قلائد الجواهر، ص 57.

[6] اليافعي، خُلاصة المَفاخِر في مناقب الشيخ عبد القادِر، ص 35-37؛ التادفي، قلائد الجواهر، ص 25.

[7] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 8 أيار 2000.

[8] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، ديوان عبد القادِر الجيلاني، ص 117.

[9] زيدان، عبد القادِر الجيلاني، ص 65.

[10] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، ديوان عبد القادِر الجيلاني، ص 203-230.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share