الفصل (8) عَليٌ بِن أَبي طالِب: الخَليفةُ الرّوحِيُّ للنَّبيِّ ﷺ

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، ربما في بغداد (حوالي 1993).

«عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن تعلَّم وعَمِلَ وعَلَّمَ دُعِيَ في الملكوت عظيماً». إني أقول فيكم كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرّم الله تعالى وجهه: «إنَّ بين جنبَي علماً لو وجدتُ له حَمَلةً ووجدتُ فيكم أهله لما كنت اُغلق باب الأسرار، وكنت أفتح أبوابها وأصنع مفاتيحها. ولكن يا سري إحفظ الأسرار حتى يجيء الأهل». احفظ ما عندك، فإذا طُلبت منك فأَظهِرها. ما يمكنني أفصح بكل ما عندي لأن من الحال ما يُكتم من البيان».

الشيخ عبد القادِر الگيلاني (جلاء الخاطر، ص 90)

وُلِدَ الإمام علي عام 23 قبل الهجرة (599 م). حين كان لايزال طفلاً صغيراً ألمّت بقريش مجاعة، فعرض مُحَمَّد ﷺ أن يربّي عليّاً ليخفّف ثقل عمّه أبي طالب. وهكذا نشأ عليٌ منذ صغره نشأة فريدة في رعايته ﷺ. وبعد نزول القرآن العظيم تشرَّف الكثيرون بصحبة الرسول ﷺ وأخلصوا له وأنعم عليهم الله من فضله، لكن بقي الإمام علي ذو مكانة خاصة لدى الرسول ﷺ.

كان الإمام علي أوّل من أسلم وأول من صلّى مع النبي ﷺ. وحين هاجر النبي الأمين ﷺ، تركه وراءه ليرد للناس الودائع التي كانوا قد تركوها أمانةً عنده. ومن معالم حب الإمام علي لأستاذه واستعداده للتضحية في سبيله هو أنه بات في فراشه ليلة هجرته من مكة إلى المدينة حين أراد أعداء المسلمين من قريش أن يفتكوا به. وحين آخى الرسول ﷺ بعد الهجرة بين المهاجرين من مكّة والأنصار من أهل المدينة فجعل كل رجلٍ من المهاجرين أخاً لآخر ممن ناصروهم في المدينة، فإنه اختار علياً أخاً له، إذ وضع يده على منكبه وقال له: «أنت أخي، ترثُني وأرِثُك». وإرث النبي ﷺ ليس كإرث غيره، فتَرِكَتِه هي عِلمٌ وخُلقٌ وبركة. وكان عليّ حامل لواء الرسول ﷺ في كل معركة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان والشيخ نهرو في لندن، بريطانيا (منتصف 2000).

وفيما يلي بعض ما وصف به الإمام علي مكانته الفريدة من رسول الله ﷺ:

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ. وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ. وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْل… وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي. وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الإسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.

وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ﷺ فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟» فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ. إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر»».[1]

ومثلما نشأ الإمام علي في كَنَف النبي ﷺ وتتلمذ على يديه وكان أقرب الناس إليه في حياته، فكان آخر من ودّعه في هذه الدنيا، حيث قام بتغسيل جسده الشريف وتكفينه ودفنه. وهكذا كان الإمام علي الأقرب إلى أستاذه ﷺ قلباً وقالباً، معنى وجسداً.

لم يكن اختيار الرسول ﷺ لعلي ربيباً ورفيقاً طول حياته محض صدفة، بل اصطفاه عن بصيرة وعلم، تحقيقاً لأمر ربّاني. إذ كان الله قد اختار علياً ليكون الخليفة الروحي لرسوله ﷺ، وليكون زوجاً لابنته ﷺ، فاطمة الزهراء، ليجعل في نسلهما الخلافة الروحية ونور النبي ﷺ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب/33). فهنالك الحادثة المشهورة حين جمع الرسول ﷺ علياً وفاطمة واجلس ابنيهما الحسن والحُسَين على فخذيه ولفّ حولهم جميعاً كِساءً ثم تلا آية التطهير ووصفهم بأنهم أهل بيته.[2] وهذا النسب المبارك هو النصف الثاني مما آتى الله محمداً ﷺ لهداية الناس، الذي نصفه الأول القرآن الكريم:

«إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي. وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا».[3]

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، تكية السليمانية (17 آب 2004).

فليس مستغرباً إذاً أن نجد بأن الرسول ﷺ قد وصف الإمام علي في الكثير من أحاديثه الشريفة بفريد الصفات التي تبيّن مكانته الخاصة كونه خليفته الروحي. فالإمام علي هو باب مدينة العلم النبوي الروحي: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِهِ مِنْ بَابِهِ».[4] وجعل النبي ﷺ مكانته منه كمكانة هارون وزير النبي موسى من كليم الله: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»؟[5] وفي أثناء عودته من حجة الوداع، أي قبل حوالي ثلاثة أشهر من انتقاله إلى عالم الروح، حين وصل المسلمون غدير خُمّ، أعلن النبي ﷺ بأن ولاية المسلمين هي للإمام علي وأوصى بطاعته وجعل موالاة علي من موالاته ﷺ ودعا الله بأن يوالي من ينصره ويحارب من يناصبه العداء: «اللهمَّ مَنْ كُنتُ مَوْلاه، فهذا عَليٌّ مَوْلاه. اللهمَّ والِ مَنْ والاهُ، وعادِ من عاداهُ. وأنْصُر من نَصَرَه، وأخْذُل من خَذَلَه».[6]

ويروي شيخنا بأنه حين كان في إسطنبول في الشهر الرابع من عام 2000 سمع يوماً قبل أذان الفجر بدقائق وهو في حالة اليقظة وليس النوم صوتاً عميقاً من السماء يردّد ثلاث مرات ببعض البطء: «مُحَمَّد نورٌ بابه علي».[7] وكان الصوت عالياً وواضحاً بحيث بدا وكأنه كان يُسمَع في كل أطراف المدينة.

باستثناء الطريقة النقشبندية التي تنتسب إلى أبي بكر الصدّيق، فإن جميع طرق التصوّف تعود إلى الإمام علي. فهو وارث العلوم الروحية للنبي ﷺ وهو الذي اختاره ليكون خليفته الروحي ومن بعده آل بيته الأطهار.

[1] الإمام عليّ بن أبي طالب، نهج البلاغة، ص 469-470.

[2] أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج 44، ح 26550، ص 173-174؛ مسلم، صحيح مُسلم، ج 4، ح 2424، ص 1883.

[3] الترمذي، الجامع الكبير، ج 6، ح 3788، ص 125.

[4] الطبراني، المعجم الكبير، ج 11، ح 11061، ص 66.

[5] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 3580، ص 358.

[6] أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ح 950، ص 262؛ ح 951، ص 263.

[7] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 4 آذار 2013.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share