الفصل (3) النشأة في بيت روحي

Share

 

الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان في كركوك (النصف الثاني من سبعينيّات القرن الماضي).

«لم يكن الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان ينام الليل. فبعد أن يترك مجلسه مع الدراويش، كان يصلّي العِشاء، ثم يبقى في حالة ذكر حتى يكمل صلاة الصبح وصلاة السُّنّة وباقي عباداته ثم ينام. وحتى حين يكون في حالة مرض شديد فلم يكن يتوقّف لحظةً عن قراءة القرآن».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 24 أيلول 2016)

نشأ الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد في بيت من بيوت الله لم يخلُ من ذكره والدعوة إلى التقوى والعمل الصالح. فقد كان والده الشيخ عبد الكريم أستاذ الطريقة، حيث جلس على سَجّادة الطريقة بعد وفاة الشيخ حُسَين الكَسْنَزان وشيخنا لم يتجاوز عامه الأول. أما والدة شيخنا السيدة حفصة فكانت امرأة عابدة زاهدة سخّرت نفسها لمساعدة أستاذ الطريقة في خدمة الطريقة.

كان والد شيخنا صاحب أكبر تأثير عليه، فتعلّم منه الأخلاق المُحَمَّدية من خير الطباع والفضائل، وصاغ هذا التأثير شخصيّته وسلوكه بشكل كبير. وكان شيخنا يحب والده حبّاً جمّاً ويحترمه احتراماً عظيماً، حتى أنه كان لا يستطيع الجلوس في مجلسه حتى يأذن له، وكثيراً ما كان يتجنّب الجلوس في حضوره حتى من بعد أن يأذن له. وكان يخجل من أن يبادره بالسؤال أو طلب أي شيء، فلم يكن يقترب منه إلا إذا ناداه لأمر ما أو ليأخذ منه التوجيهات بشأن مسائل يحتاج رأيه فيها.

وكما هو حال جميع أهل بيت الشيخ عبد الكريم، لم ينادِ شيخنا والده أو يشير إليه إلا بلقب «شيخ»، لأنّه وإن كان والده البايولوجي، فإنه قبل ذلك والده الروحي من عالم الروح. فروح المريد متّصلة بروح شيخه من يوم خلق الله الأرواح. ورغم أهمية علاقة الأبوة وقدسيّتها، فإن علاقة المريد بشيخه لها تأثير أكبر على حياة المريد. وقد توارثت هذه العائلة المباركة هذا الاحترام والتقديس لشيخ الطريقة على مر الأجيال، فمثلاً لم يكن أهل أستاذنا يشيرون إليه ولا ينادونه إلا بلقب «شيخ»، ولم يحضر أولاده مجلسه إلا وقوفاً، باستثناء الشيخ نهرو الذي كان شيخنا يصرّ على أن يجلس في مجلسه، لأنه غالباً ما يحتاج إلى التواجد قريباً منه لأنه وكيله العام. ولكن علاقة شيخنا الروحية بالشيخ عبد الكريم كانت علاقة فريدة، لأنها لم تكن فقط علاقة مريد بشيخه، ولكنها أيضاً علاقة شيخ طريقة في طور التكوين بمعلّمه وشيخ الطريقة قبله. فمثلما كان شيخنا يحبّ والده حبّاً جماً، كان الشيخ عبد الكريم يحبّ شيخنا بشكل استثنائي، وكما سنرى لاحقاً. ويروي شيخنا بأنه في طفولته حين كان لا يتجاوز عمره ما يقارب العاشرة كان يرافق الشيخ عبد الكريم في زيارته اليومية إلى بستان شاه الكَسْنَزان خلف قرية كَرْبْچْنَه التي كان يشرف على زراعتها. كان الشيخ عبد الكريم يصلي العصر ويقيم ورد العصر، كما كان أحياناً يصلّي المغرب أيضاً هناك، قبل أن يعود.[1] وكان شيخنا لا ينام ليلاً حتى يعود والده إلى البيت بعد انتهائه مجلسه الليلي مع الدراويش لينام على رجله. وحين يسافر الشيخ عبد الكريم للإرشاد كان شيخنا يمرِض حتى عودة والده لشدّة تعلقّه به وحبّه له.[2]

أما السيدة حفصة، فكانت لا تزال طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها السنتين أو الثلاث حين توفيت والدتها، السيدة خديجة، فأستودعها والدها في رعاية خالها الشيخ عبد الكريم قادر كرم حتى كبرت فعادت تحت عناية والدها. وحين كانت عند خالها درست القرآن على يد الملا محي الدين، الذي كان ملّا العائلة. وبعد زواجها من الشيخ عبد الكريم أكملت دراستها على يد زوجة الشيخ الأزهري الكبير عبد الحليم محمود، حيث زارا السلطان حُسَين وأقاما لفترة في كَرْبْچْنَه. كما درس الشيخ عبد الكريم أيضاً القرآن على يد الشيخ عبد الحليم. وأكمل الشيخ عبد الحليم دراسته الجامعية ونال درجة عالم في مصر في 1932 ثم التحق في نهاية عام 1937 بالبعثة الأزهرية في السوربون في فرنسا وبقي هنالك حتى حصل على شهادة الدكتوراه في عام 1940. ولما كان انتقال السلطان حُسَين إلى عالم الأرواح في بداية عام 1939، نستطيع أن نحصر تاريخ ذهاب الشيخ عبد الحليم إلى كَرْبْچْنَه في الفترة 1932-1937. ومن معالم تأثير زيارته للشيخ حُسَين الكَسْنَزان هو اختياره لأن يكون بحثه للدكتوراه عن التصوف الإسلامي، وعلى وجه التحديد عن المتصوف المعروف الحارث بن أسد المُحاسِبي (ت 243 هـ). وأصبح عبد الحليم محمود شيخ الأزهر من عام 1973 حتى وفاته عام 1978.[3]

كانت السيدة حفصة امرأة عابدة قلَّ مثيلها حتى أنها كانت دائماً في حالة وضوء وذكر. ويروي شيخنا بأنه لم يرها إلا وهي في حالة من ثلاث: الصلاة، أو تلاوة القرآن، أو قراءة الأذكار وكتاب دلائل الخيرات في الصلاة على النبي ﷺ. وكذلك يذكر كل من رأى السيدة حفصة بأنها كانت دائماً في ذكر الله. كما أنها لم ترضع أطفاها إلا وهي في حالة وضوء، وهذا كان حال زوجة الشيخ حُسَين أيضاً مع أطفاها. ولدت السيدة حفصة للشيخ عبد الكريم بعد حُسَين وعائشة وشيخنا بناتهما كافية وحليمة وسلمى.  

في بداية عام 1956، توفّي ابن الشيخ عبد الكريم والسيدة حفصة الأكبر سناً، حُسَين، عن مرض عُضال وعمره تسعة وعشرون عاماً ودُفِنَ بجانب مرقد عمّه السلطان حُسَين في كَرْبْچْنَه. فدخلت السيدة حفصة في حالة رياضة روحيّة دائمة حتى وفاتها في عام 1992. إذ توقّفت عن أكل الأطعمة الحيوانية وأصبحت نباتيّة، ولم تأكل الدهن ولم تقرب المرق والرز. بل ومنعت عن نفسها حتى بعض الفواكه، فمثلاً لم تكن تأكل البرتقال والفواكه السكّرية. ومنعت على نفسها كل طعام كان يحبّه ابنها الفقيد. وكان طعامها في معظم الأوقات مجرّد خبز رقاق مع الشوربة.

وكما كان حال زوجات الرسول ﷺ، فإن لزوجات المشايخ أدواراً مهمة في مساعدتهم على القيام بواجباتهم في خدمة الطريق إلى الله. فحياة شيخ الطريقة لها متطلّبات خاصة تكون الزوجة أنسب من يراعيها، كضمان شروط النظافة والطهارة والحلال لمشربه ومأكله وحاجياته وأماكن جلوسه وعبادته ونومه، ومعرفة الأطعمة التي يمكن للشيخ أن يأكلها والتي يتجنبها، وتجهيز طعام الشيخ وهي على وضوء. فالشيخ ذو وَرَع عظيم، وعلى زوجته وكل من يقوم على إدارة بيته وخدمته مراعاة ذلك.

وتحمل زوجة شيخ الطريقة جزءاً من أعباءِ المسؤولية التي على عاتقه. فبيت شيخ الطريقة ليس بيتاً عادياً، وإنما هو بيت من بيوت الله قائم لخدمة كل من يريد السير على الطريق إلى الله. وهو تكية مُشرّعة الأبواب يقصدها الناس من كل مكان وفي كل وقت ولمختلف الحاجات، لذلك ترى القائمين عليها في شغلٍ دائمٍ ليلاً ونهاراً. فبيت الشيخ هو من البيوت التي وصفها عز وجل في كتابه العزيز: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ (النور/36-37). وبينما يكون الشيخ مسؤولاً عن كل أمور الطريقة والدراويش، فإن زوجته تساعد في إدارة شؤون بيت الذكر هذا، بما في ذلك الإشراف على إعداد الطعام للضيوف الذين قد يصلون أو يغادرون في أي وقت، صباحاً أو مساءً. وكانت السيدة حفصة خير زوجة أفنت حياتها في مساعدة الشيخ عبد الكريم في خدمة الطريقة والدراويش.

ومثلما هنالك خلفاء في التكية مسؤولون عن إرشاد الرجال، فإن هنالك خليفات في تكية النساء لإرشاد النساء. وكثيراً ما كانت السيدة حفصة تجلس في تكية النساء لتستقبل الزائرات وتعطيهنّ البيعة وتستمع لاحتياجاتهن وتنصحهنّ، حيث كانت ذات علم كبير بأمور الدين، أو تعطي من تحتاج منهنّ ماءً للتبرك أو تدعو لها. كما كانت لديها غرفة خاصة تستقبل فيها مَنْ عندها حاجة خاصّة لا تستطيع مناقشتها أمام نساء أخريات. فمثلما أن واجب شيخ الطريقة خدمة الطريقة والدراويش، فإن واجب زوجته هو أن تساعده في هذه المهمة. وقامت السيدة حفصة بهذا الواجب على أفضل ما يكون، فكانت عوناً حقيقياً للشيخ عبد الكريم. واستمرّت في خدمتها للطريقة والمريدات بعد انتقال الشيخ عبد الكريم واستلام ابنها الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد مشيخة الطريقة، ثم تولّت المسؤولية بعدها زوجة شيخنا.

كانت السيدة حفصة من أولياء الله وشهد الناس منها كرامات. ومنها أنها أثناء مراسيم دفنها لاحظ الحضور بأن قدمها كانت بارزة من الكفن. ولكن قبل أن يلمسوا القدم لدفعها داخل الكفن، سحبت هي قدمها وكأنها كانت لاتزال حيّة.

وكانت للسيدة حفصة مكانة خاصة عند الشيخ عبد الكريم، وكان ينصت إلى آرائها. وفيما يلي حادثة تفصح عن مكانتها الخاصة عند أستاذ الطريقة. في إحدى ليالي عام 1973 أو 1974 كان بعض الدراويش يقومون بالإرشاد في منطقة نائية قرب منطقة العْظيم في محافظة ديالى. وخلال تقديم بعض فعاليّات الدرباشة، أدخل خليفة اسمه «قاسم» السيف في بطن أحد الدراويش بتهوّر، فسبب جرحاً أعمق وأكبر من المعتاد حتى خرجت بعض أحشاء الدرويش. فقام الخليفة بربط بطن الدرويش برباط، طالباً من المشايخ المدد لمعافاة الرجل. ولكن خلاف ما يحدث عادة لمن يمارس فعاليّات الدرباشة، انتهى الإرشاد والذكر ولم يُشْفَ المصاب. فلم يبقَ بيد الخليفة سوى أخذ الدرويش المصاب إلى الشيخ في كركوك.

لم تكن السيارات متوفّرة في تلك المنطقة النائية في ذلك الزمن، فاضطروا للانتظار حتى الفجر حين جاءت سيارة قلّابة لتسليم مادة جص البناء لأحد سكان المنطقة. فوافق السائق على نقل الدرويش المصاب، فوضعوه في مكان تحميل المواد. وكانت السيارة أبعد ما تكون عن النظافة التي يحتاجها أي جرح، ناهيك عن جرح خطير مثل هذا. كما كان معظم الطريق من منطقة العْظيم غير مُعبّد في ذلك الوقت، فكان المصاب يتعرض في الطريق بشكل مستمر إلى المطبّات.

وصل الدرويش إلى التكية قرب الساعة السادسة صباحاً، وكان فاقداً للوعي، ولكن أي طبيب كان سيجزم بأنه وإن كان لايزال حياً، فإنه سيموت لا محالة ولا فائدة من محاولة علاجه بسبب خطورة الإصابة. وأرسل الشيخ عبد الكريم في طلب شيخنا الذي كان في استراحته في البيت. فلما جاء شيخنا وجد الشيخ عبد الكريم غاضباً وهو يشير إلى الدرويش الممدّد على الأرض وقد خرجت أحشاؤه. فإن الغرض من ممارسة الدرباشة هو ليس تعريض الجسم إلى أكثر الأفعال خطورة، ولكن القيام بما يكفي للبرهنة للناظر بأن عدم تعرّض جسد الدرويش إلى النتائج الطبيعية لمثل هذه الفعاليات يؤكّد بأن للطريقة قوة روحية. فكلما زادت خطورة الفعل زادت الطاقة الروحية المطلوبة لحماية الدرويش، ولذلك فالمفروض بالدرويش أن لا يستخدم من الطاقة الروحية أكثر مما يحتاجه.

وفي غضبه من تهوّر الخليفة رفض الشيخ عبد الكريم التدخّل وقال للحضور بأن يأخذوا الدرويش المصاب إلى المستشفى وأن يذهبوا بالخليفة إلى الشرطة. حينئذ تدخّلت السيدة حفصة معاتبةً الشيخ بأنه أستاذ الطريقة ويبقى مسؤولاً عن سلامة الدرويش حتى وإن أخطأ الخليفة، كما أن الدرويش المُصاب هو في بيته الآن فلا يمكن أن يتخلّى عنه ويرسله إلى المستشفى، ولا أن يرسل الخليفة إلى الشرطة. فهدأ الشيخ عبد الكريم وأنصت لطلب السيدة حفصة وتراجع عن قراره.

وامتثالاً لأمر الشيخ عبد الكريم، قام أحد الدراويش بفتح الرباط حول الجرح، الذي كان قد تيبّس والتصق بالجرح، نتيجة كمية الدم والإفرازات وطول الوقت الذي بقي فيه الجرح من غير علاج، حتى كان يُسمَع صوت خلع الرباط عن الجرح. كما كانت منطقة الجرح قد تلوّثت بمادة الجص أثناء عملية النقل. ثم قام مع درويشين آخرين بإدخال الأحشاء المتيبّسة والمتورّمة داخل بطن الدرويش بالقوّة، مستخدمين غطاء رأس رباطاً لفّوه حول بطنه. وطبعاً قاموا بذلك بأيديهم المجرّدة ومن غير أي تعقيم ومن أية معرفة طبّيّة، وهو أمر غاية في الخطورة في الظروف الطبيعية لأنه يسبّب تلوث أحشاء الجسم الداخلية، ولكن هذا ظرف خارق للعادة لأن فيه تدخّل روحي للمشايخ. ثم أمر الشيخ عبد الكريم بأن يوضع تراب من الحضرة الطاهرة لشاه الكَسْنَزان على الدرويش وأن يوضع وسط حلقة ذكر قام بها المتواجدون في ذلك الوقت في التكية، بما فيهم شيخنا، وكان عددهم حوالي سبعة.

وأثناء الذكر بدأ وجه المريد المصاب بالاحمرار تدريجياً، وبدأ يسترجع وعيه. بعد انتهاء الذكر طلب الشيخ عبد الكريم بأن يتركوا الدرويش لينام. وعاد شيخنا إلى بيته وذهب الدراويش الآخرون كلﱡ إلى حاله. بعد حوالي ست ساعات استيقظ الدرويش وهو يشعر بالجوع، فطلب شوربة. بعد أن أكلها أحسّ فجأة بالحاجة إلى الذهاب إلى المرافق. ومن المعروف طبّيّاً أن قضاء الحاجة يعني بأن الأحشاء عادت إلى العمل بشكل طبيعي. وتعافى الدرويش بشكل كامل.

ويذكّرنا أخذ الشيخ عبد الكريم برأي السيدة حفصة في هذه الحادثة ببعض مواقف زوجات الرسول ﷺ في مساعدته والإدلاء بآراء أخذ بها، كما حدث في صُلح الحُديبيّة. فبعد أن اتّفق الرسول ﷺ مع المشركين على شروط الصلح وكتبوها، أمر أصحابه بأن ينحَروا ويحلِقوا، ولكن اعترض عدد من الصحابة على تلك الشروط لأنهم اعتبروها ليست في صالح المسلمين، فلم يفعلوا ما أمر به النبي ﷺ، رغم إعادته الأمر ثلاث مرّات. فلمّا دخل على زوجته أم سلمة ذكر لها ما حدث، فأشارت عليه: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَداً مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَك‏‏». فخرج ولم يكلّم أحداً منهم، ثم نحر بُدْنَه ودعا حالِقَه فَحَلقَه‏.‏ فذكّرهم هذا بأن أفعال الرسول ﷺ هي بأمر من الله عز وجل، وأنّ وراءها حكمة وإن خَفِيَت عليهم، وأن النبي ﷺ ما كان ليعصي أمر الله وإن خالفه فيه أقرب الناس إليه، فنحروا ثم حلقوا بعضهم بعضا.[4]

وطبعاً كانت للسيدة حفصة مكانة خاصة أيضاً عند ابنها الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، وهو ما نرى دليلاً عليه في كرامة شبيهة حدثت في أحد أيام الشتاء في منتصف ثمانينيّات القرن الماضي. إذ جُلِب إلى تكية بغداد الرئيسة درويشٌ قد أُصيبَ في فعالية للدرباشة في الموصل، وكان ملفوفاً ببطانية مليئة بالدم اليابس، حيث لا يقل طول السفر من الموصل إلى بغداد عن خمس ساعات. وغضب الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد مما فعل هذا الدرويش ولم يرد التدخّل في علاجه، ولكن السيدة حفصة ذكّرت ابنها الشيخ بالحادثة الشبيهة التي حصلت في عهد والده الشيخ عبد الكريم وطلبت منه مساعدة الدرويش. فأمر شيخنا بقراءة قصيدة باللهجة العراقية في مدح السلطان حُسَين الكَسْنَزان اسمها «نَعْمِين أبو طاهر يا راعي الشارة»، وكلمة «نعمين» هي كلمة مديح بمعنى «نِعْمَ»، و «أبو طاهر» هو لقب السلطان حُسَين، حيث أن «طاهر» هو أكبر أولاده، أما تعبير «راعي الشارة» فيعني «صاحب الإشارة»، أي الذي يترك إشارة عند تدخّله روحياً، مثلاً بالاستجابة لطلب المريد للعون. كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد محنياً رأسه أثناء قراءة المديح، ثم ضرب بلطف بقدمه الشريفة رجل الدرويش، فتحرّك. بعد ذلك أخذوا الدرويش إلى المستشفى حيث أُعطِيَ كمية كبيرة من الدم، ولم يفهم الأطباء في المستشفى كيف أمكن لهذا الشخص أن يبقى حياً!

وانتقلت السيدة حفصة إلى جوار ربّها في بغداد في عام 1992، ودُفِنَت قريباً من تكية كركوك، في مقبرة الشيخ محيي الدين كركوك، أحد أساتذة الطريقة الكَسْنَزانيّة. وتوّلت مسؤوليّاتها في التكية بعدها زوجة شيخنا، السيدة كَژال.

وهكذا نشأ شيخنا خير نشأة في رعاية أبٍ هو شيخ الطريقة ومربﱟ فَذﱟ للمريدين وأمٍّ عابدة تَقيّة سخّرت حياتها في مساعدة زوجها الشيخ عبد الكريم في خدمة الطريقة ومريدي القرب من الله. فتربّى شيخنا تربيّة إسلامية مثاليّة جعلته يتحلّى بأجمل الصفات وأسماها. وهكذا يختار الله لكل من يريد له أن يكون علماً من أعلام الهداية إليه من يربّيه ليجعله كما يريد.

 

[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 11 آب 2019.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 1 أيّار 2018.

[3] عبد الرحمن، شيوخ الأزهر، ج 5، ص 15-16.

[4] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 2644، ص 119.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share