الفصل (15) حبّ السماع لمدح النبي ﷺ ومشايخ الطريقة

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية عمّان، الأردن (21 آب 2018).

«المريد كالسيّارة، دائماً يحتاج إلى وقود. المريد يحتاج إلى الذكر، الاستمداد، رؤية الشيخ، التقرّب من الشيخ، المدائح، القصص. لِمَ قال الله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف/3)؟ كي يطمأن المريد ويتقوّى روحياً، ليتقوى المسلمون: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ (غافر/51). هذا نصر، هذا تقوية للقلوب».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 25 أيّار 2000)

لا تتحّدد طبيعة وتأثير أي قول على السامع بكلماته فقط، وإنما أيضاً بعوامل أخرى مثل هويّة المتكلم وأسلوبه في إلقاء القول وصوته. فإذا أراد القائل تهديد السامع، نطق بأسلوب يزيد من شعور السامع بالتهديد، وإذا أراد كسب وده، خاطبه بنبرة رقيقة وهادئة، وهكذا. ونرى أهمية مثل هذه العوامل حتى عند قراءة كتاب الله. فتلاوة آيات الله بصوت جميل وأنغام عذبة تمس شغاف القلب تزيد من وقع كلام الله على المُنصِت. ولذلك قال رسول الله ﷺ: «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا».[1] فمن طبيعة الإنسان التأثر بالأصوات والأنغام الجميلة، وهو أمر طبيعي يمكن ملاحظته حتى على الطفل الصغير. بل من المعروف علمياً بأن الحيوانات والنباتات تستجيب للموسيقى، حيث يمكن أن تساعد في نموّها وتسرّع في شفائها من الإصابات.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر في تكية بغداد، العراق (بداية التسعينيات).

لذلك اهتمّ المتصوّفون منذ القدم بتأليف القصائد في مدح الرسول ﷺ ومشايخ الطريقة وإنشادها، لأن ذكر النبي ﷺ ومشايخ الطريقة وتذكّر شمائلهم ومآثرهم هما من عوامل تثبيت حبّهم، وبالتالي زرع حبّ الله في القلب لأنهم دعاته وخواصه من عباده. فللمدائح دور خاص في تذكير السالك على الطريق إلى الله بالهادي الأول ﷺ وبمن سار على نهجه الشريف وزيادة حبّهم في قلبه وتأثره بذكرهم. فالمديح ينبعث عن الحب ويبعث عليه، فإذا أنشده صوت حسن على إيقاع جميل تضاعف تأثيره. ولذلك انطلقت حناجر أهل المدينة بأول قصيدة مديح في الإسلام، «طَلَعَ البدرُ علينا»، حين استقبلوا نور الإسلام ﷺ عند وصوله مهاجراً من مكة.

من مشايخ طريقتنا الذين جُمِعَ ونُشِرَ ما كتبوه من شعر ديني ومدائح هما الإمام علي بن أبي طالب[2] والشيخ عبد القادِر الگيلاني.[3] وللشيخ إسماعيل الولياني قصائد باللهجة البادينيّة للغة الكردية وللشيخ عبد الكريم شاه الكَسْنَزان قصيدة طويلة، كما يُقال بأن للشيخين عبد القادِر وحُسَين أيضاً أشعار، ولكن ضاعت هذه المخطوطات حين حرق جيش الاحتلال البريطاني كَرْبْچْنَه في منتصف عام 1919 انتقاماً من الشيخ عبد القادِر وابنه الشيخ حُسَين الكَسْنَزان اللذين قاتلا ومريدو الطريقة الجيش الغازي.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في مسجد تكية بغداد، العراق (19 كانون الثاني 1992).

وللطريقة الكَسْنَزانِيّة تراثٌ ضخم من المدائح الرائعة، باللغات العربية والكردية والفارسية. وكانت معظم المدائح في عهد الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان باللغة الكردية لأن انتشار الطريقة كان في المناطق الكردية بشكل رئيس، ولكن مع تحوّل مركز الطريقة في عهد أستاذنا إلى بغداد وتجاوز عدد الدراويش الذين يتحدّثون العربية بكثير عددهم من متحدّثي الكردية، أصبحت العربية لغة أغلب المدائح الجديدة وأصبحت المدائح العربية هي التي تُقرأ في مجالس شيخنا. وبتشجيع من شيخنا الذي كان مولعاً بمدح النبي ﷺ وتذكّره والتذكير به، أبدع أدباء الطريقة في كتابة العشرات من القصائد في مدح الرسول ﷺ ومشايخ الطريقة باللغة العربية الفصحى وباللهجة العراقيّة العامّيّة. فأصبح للطريقة الكَسْنَزانيّة في عصر شيخنا تراث رائع من هذه القصائد التي لا يملّ المرء من قراءتها والاستماع إليها. وأحد الشعراء الذي له الكثير من المدائح الكَسْنَزانيّة التي لازالت تُمدَح حتى يومنا هذا هو الخليفة باسم جواد كاظم (رحمه الله).

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في تكية بغداد، العراق (ربما منتصف التسعينيات).

وباستثناء بعض المدائح النبوية المشهورة، مثل قصيدة البردة للبوصيري، فإن المدائح التي يستمع إليها شيخنا ودراويش طريقتنا هي من مؤلفات دراويش كَسْنَزانِيّين وتركّز على مآثر وكرامات مشايخ الطريقة الكَسْنَزانِيّة دون غيرهم، لأنّ فائدة المدائح للمريد هي تنمية حبّ النبي ﷺ ومشايخ سلسلة طريقته في قلبه واعتقاده بهم لأنهم وسيلة الوصول إلى الله.

ومن شعراء الطريقة الذين كان أستاذنا يحبّ قصائدهم على وجه الخصوص هو الخليفة علي فايز (رحمه الله) الذي استشهد على يد إرهابيين طائفيين في عام 2007. فخلال زيارته لندن في عام 2000، تحدّث أستاذنا عن شعر المديح الصوفي وذكر الشاعر المُبدع علي فايز وقال مُثنياً على شعره بأنه في رأيه أفضل حتى من شعر أحمد شوقي في مجال المفاهيم والمعاني الصوفيّة. كما أثنى على شعر الخليفة الدكتور عبد السلام الحديثي الذي لا يزال يُغني مكتبة المدائح الكَسْنَزانيّة بالكثير من القصائد الجميلة. وقد استشهدت في هذا الكتاب ببعض أبيات للشاعرين.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة مفتي العراق المرحوم عبد الكريم بيارة (المدرّس) في بغداد، العراق (التسعينيات).

وللطريقة مدّاحين موهوبين كان شيخنا يدعوهم لينشدوا في مجلسه، ولكنه كان يحب الاستماع على وجه الخصوص إلى المدّاح مجيد حميد الذي مدَحَ في مجالسه حوالي ثلاثة عقود ونصف. وللخليفة مجيد صوت عذب متمكّن، ولكن اتقانه للمقامات يضيف إلى مدحه جمالاً وابدعاً استثنائيين. وكان شيخنا يطلب من الخليفة مجيد أن يُنشد فصلاً من المديح حتى أثناء تنقله في السيارة، كما كان يطلب منه فصلاً قصيراً من المديح قبل أن يغادر مجلسه ليلاً للذهاب إلى غرفته الخاصّة. وبعد انتقال الخليفة مجيد للسكن في الولايات المتحدة الأمريكية، كان يزور شيخنا في أوقات الموالد على وجه الخصوص، فأصبح الخليفة حسن عبد الكريم ذو الصوت الجميل هو مدّاح مجالس شيخنا.

وتُنشَد عادة مديحتان، وأحياناً ثلاث، بعد حلقة الذكر في ليلتي الاثنين والخميس، وتُنشَد المدائح أيضاً في أيّام الاحتفالات الدينية، مثل المولد النبوي الشريف ومولد الشيخ عبد القادر الگيلاني. كما يحب الدراويش أحياناً إنشاد المدائح في التكايا في أوقات أخرى.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في منطقة الجزيرة في الرمادي، العراق (1 نيسان 1990).

وحين كانت صحّة شيخنا تساعده على حضور حلقات الذكر، كان يحضر جلسات المدائح التي تلي الذكر. ولكن بعد أن ضعفت صحّته، توقّف عن حضور حلقات الذكر ولكن استمر إنشاد المدائح في مجلسه وكان يحضرها الدراويش المتواجدين في التكية. وبقي يحضر الموالد التي تُقام في التكية الرئيسة.

وأستاذنا كثير التأثّر بالمدائح، وكثيراً ما تنطق عبراته وحركات جسمه بما يكنّه قلبه. ويتأثّر بالذات حين يرد ذكر النبي ﷺ، كما أن ذكر الإمام الحُسَين وما مرّ به من معاناة له وقع خاص عليه، ولذلك فإنه يحيي ذكرى استشهاده كل عام.

وأحياناً يوجّه شيخنا بتغيير كلمة أو تعبير في إحدى المدائح ببديل أفضل. فمثلاً، كانت إحدى قصائد الخليفة خالد البارودي (رحمه الله) تبدأ بعبارة «صالَ على الفُرسان جَدّي حيدرة»، حيث إن «حيدرة»، الذي يعني «الأسد»، هو أحد ألقاب الإمام علي بِن أبي طالب، وهو لقب ذكره الإمام علي حين قاتل وغلب أشجع مقاتلي أهل خيبر يوم فتحها المسلمون. وأشار شيخنا إلى أن كلمة «الفرسان» هي وصف جميل يشير إلى الشجاعة لا يجدر استخدامه لمن قاتلوا الإمام علي، فقام بتغييرها إلى كلمة «الكُفّار»، فأصبحت بداية القصيدة: «صالَ على الكُفّار جَدّي حيدرة».

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في تكية السليمانية، العراق (ربما 2006-2007).

وفي عام 2015 تلقّى أستاذنا هديّة من مشايخ الطريقة بيتاً من الشعر باللغة الكرديّة في مدح الرسول ﷺ هذا نصّه:

أحْمَد مُحَمَّد هَرْ دو يَكْ ناوه             صَلَوات لدْيار أو جوته چاوه

وترجمته:

أحْـمَد مُحَمَّد الاسمان واحد            صــلــوات عــلـى الـعـيـنـيـن

ومن المعروف طبعاً أن «أحْـمَد» و «مُحَمَّد» هما من أسماء الرسول ﷺ. فالاسم «أحْـمَد» هو صيغة مبالغة لـ «حامد»، فيعني الأكثر حمداً، أي الأكثر حمداً لله. أما «مُحَمَّد» فهو صيغة مبالغة لـ «محمود»، أي يعني الكثير التلقّي للحمد.

وطلب شيخنا من الخليفة الدكتور عبد السلام الحديثي أن يضع قصيدة باللغة العربية يكون هذا البيت لازمة لها، بحيث يُقرأ بعد كل بيت من القصيدة، فكانت هذه القصيدة:

جاهُـكَ طه قَـطْ لا يُضاهى           مـجـدٌ تــباهـى سِرُّ الــنـقـاوةِ

كَهفُ الوجودِ عينُ السُعودِ           صاحِـبُ الـجـودِ بحرُ النَداوةِ

سِرُّ الخـلائِق فَيضُ الحَقائقِ           نُـورُه سـابِــق ولا يُـسـاوى

كاشفُ الغُمة راحِمُ الأُمّة              سِراجُ الظُلْـمة ماحِي الشَقاوةِ

دُرَّةُ آدمِ نَـــبــعُ المَـــكارِمِ               فـأبـو الـقاسِـمِ عَـينُ السَخاوةِ

شَيـخـي مُحَمَّد غـوثٌ مُـمجَّد         وارِثُ الأسْعَدِ لَيس دَعاوى

عَـميـدُ العِـتْرةِ جَـدُّه أسْرى             وَعـنـدَ الحَـضْرَةِ نالَ الحَـفاوةَ

فَـكَـمْ عـديـمٌ وكَـمْ يَـتـيـمٌ               وكَــمْ سَــقــيــمٌ بِــه يُــداوى

الكَسْنَـزانـيٌ بَـدْرُ الـزَمـانِ              وفــي لِــسـانــي لَــهُ تِـــلاوة

وغدت هذه القصيدة من أكثر المدائح إنشاداً. وحين يبدأ المدّاح بإنشاد هذه القصيدة كان شيخنا يقف احتراماً لهذا المديح للنبي ﷺ الذي تلقّاه من مشايخ الطريقة. وفي آخر شهر تقريباً من حياته، كان شيخنا يطلب الاستماع إلى هذه المديحة حصراً.

[1] الدارمي، سُنَن الدارمي، ج 4، ح 3544، ص 2194.

[2] الإمام علي بن أبي طالب، ديوان الإمام علي. هنالك شبه اتّفاق على أن بعض أو كثير من الشعر المنسوب إلى الإمام علي قد يكون منحولا (الخفاجي، ديوان الإمام علي، ص 20)، ولكن من المستبعد أن يكون كلّ ما نُسِبَ إليه لا يعود له.

[3] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، ديوان عبد القادِر الجيلاني.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share