الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية عمّان، الأردن (5 حزيران 2019).
«أجيبوا المؤذنين الذين يدعونكم الى المساجد التي هي بيت الضيافة والمناجاة. أجيبوهم فإنكم تلقون النجاة والكفاية عندهم. إذا أجبتم داعِيَه أدخلكم داره وأجابكم وقرّبكم وعلّمكم المعرفة والعلم. يُريكم ما عنده، ويهذّب جوارحكم، ويطهّر قلوبكم، ويصفّي أسراركم، ويُلهمكم رشدكم، ويقيمكم بين يديه، ويوصل قلوبكم الى دار قربه ويأذن لها بالدخول عليه. هو كريمٌ؛ إذا أجبتموه ولم تتهاونوا بدعائه أجابكم وأحسن إليكم وخلع عليكم. قال عز من قائل: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن/60). إذا أحسنتم العمل أَحسَنَ الثواب. قال النبي ﷺ: «كما تَدينُ تُدانُ» و «كما تَكونوا يُوَلّى عليكم»، أما لكم أو عليكم».
الشيخ عبد القادِر الگيلاني (جلاء الخاطر، ص 98)
إن الأصل الفارسي والكردي لكلمة «تكية» هو «تاك كاه»، وتعني الكلمة الأولى «الواحد» أو «الفرد»، والثانية «المكان» أو «المحل»، فيكون معنى «تاك كاه» هو «بيت التوحيد»، أي «بيت لا إله إلا الله مُحَمَّد رسول الله»، كما فَسَّر شيخنا أصل الاسم.[1] ومن الأسماء الأخرى القديمة الشائعة للتكية هي «خانِقاه»، و «زاوية»، و «رباط».
للتكية دور غاية في الأهمية في الطريقة لأنها مكان اجتماع المريدين لإقامة الصلاة والأذكار الجماعية والفردية، وتعلّمِ الدين وتعليمه، وتذكّرِ كلام وكرامات مشايخ الطريقة، ودراسةِ آداب السلوك الصوفي وتدريسها. وهي المكان الذي يقصده من يريد التعلّم عن الطريقة ويفكّر بأخذ البيعة، وهي مكان اكتساب الثقافة الدينية بشكل عام. ويصف شيخنا التكية بأنها «مدرسة روحية لتأهيل المريد ليكون عابداً، سالكاً، إنساناً صالحاً مُصلحاً في المجتمع»،[2] فهي المكان الذي يتعلم فيه المريد أصول الطريق إلى الله وكيفية السير عليه، ابتداءً بأُسس الشريعة. ومن أقواله في التكية:
«التكية هي البيت الأول والأخير للمريد. التكية هي بيت الذكر الذي يوصل المريد إلى الله سبحانه وتعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ (النور/36-37). هذا البيت الأصلي المأذون. هذه هي المدرسة الروحية للدخول تحت راية الرسول ﷺ. في كل زيارة للتكية، إلى الذكر، تنجلي القلوب ويتجدّد الإيمان. فبيت الذكر هو بيت الرسول ﷺ، بيت علي وفاطمة والحسين والشيخ عبد القادِر الگيلاني وشاه الكَسْنَزان».[3]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر في تكية السليمانية (النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن).
وفي أهمية التكية للمريد يشبّه الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد المريد من غير تكية كشخص من غير مأوى، لأن التكية هي مأوى طالب الطريق إلى الله. فمن الصعوبة جداً أن ينمو عدد المريدين في منطقة لا توجد فيها تكية، فكان يحضّ أية مجموعة من المريدين ليست لهم تكية في منطقتهم، حتى لو كان عددهم خمسة فقط، على تأسيس واحدة ولو بشكل وقتي. ويذكّر دائماً بأنه حتى لو كان هنالك آلاف المريدين في منطقة ما، فإنّ غياب تكية يجتمعون فيها لذكر الله والتدارس واستلام ونقل تعليمات وتوجيهات شيخ الطريقة وتنسيق نشاطات الإرشاد والدعوة إلى الله، يحدّ كثيراً من انتشار الطريقة ومن تعلّم الدراويش. وهكذا فإن تطوّر ثقافة الدرويش الروحية يبقى محدوداً جداً في غياب تكية يجتمع فيها بشكل مستمر بغيره من الدراويش. ولذلك يقول شيخنا بأنه من غير تكية لا يوجد مريدون ولا طريقة. فمن الضروري أن يكون في قلب المريد حب التكية، وحب الخدمة فيها، وحب توسيعها.[4]
وغالباً ما تكون أولى التكايا في منطقة ما مجرّد غرفة منفردة في بيت أحد الدراويش يكرّسها لإقامة شعائر الطريقة، ولكن يبقى الهدف تأسيس تكية في بناية خاصة لها. فرغم أن التكايا التي هي جزء من بيوت الدراويش تخدم الطريقة والدراويش، فإنها لا يمكن أن تقوم بدور التكية كاملاً.
وتوفّر التكية لطالبي القرب من الله خدماتٍ لا توجد في المسجد التقليدي. فإضافة إلى احتوائها على مسجد لإقامة صلوات الفرض والسُنَن والأذكار وحتى الاعتكاف، فإنها تحتوي على مطبخ لتوفير الطعام والشراب للمريدين والمحتاجين وعابري السبيل. كما أن فيها مكاناً لنوم المريدين القادمين من أماكن بعيدة ومأوى لمن في حاجة إليه. ويؤمُّ التكية المرضى طلباً للبركة والشفاء، ولذلك وصفها الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بأنها «مدرسة ومستشفى روحية ونفسية»، لأن مشايخ الطريقة هم أطباء وعلماء الروح. كما أنها بمثابة مدرسة لتدارس أمور الدين. فوظائف التكية أوسع وأكثر تنوّعاً من وظيفة المسجد.[5]#
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع مجموعة من المريدين في بيته في تكية بغداد (منتصف التسعينيات).
ومن الضروري ملاحظة أنه وإن كانت الوظيفة الرئيسة للتكية دينية، فإن لها أيضاً مهامَّ إنسانية واجتماعية وتربوية للناس بشكل عام، من كان منهم صوفياً أو لم يكن. فعلى سبيل المثال، يُطعِمُ مطبخ التكية الدراويش المتواجدين في التكية للذكر، كما أنه يوفّر الطعام لكل من يزورها من المحتاجين.
والتكية أيضاً مكان يلجأ إليه الناس لحل النزاعات والصلح بين المتخاصمين. كما أنها مكان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح حال الناس، وتوعيتهم حين تستجدّ تحديّات جديدة وتثقيفهم حول كيفية مواجهتها، ولذلك فإنها تشارك بشكل مباشر وفعّال في تربية المجتمع وبناء ثقافته. فمثلاً لعبت مدرسة الشيخ عبد القادِر الگيلاني في بغداد، والتي هي بمثابة تكية، دوراً رئيساً في إعداد جيل من المجاهدين الذين قاوموا الصليبيين، وكان من بين هؤلاء الطلاب أسماء لامعة لعبت أدواراً مهمة في هذا الجهاد.[6] ولعبت التكايا في مختلف الدول الإسلامية أدواراً غاية في الأهمية في تأليب المسلمين ضد الاستعمار وحثهم على الجهاد.[7] بل أن بعض أشهر القادة المجاهدين كانوا من المتصوّفين، مثل عبد القادِر الجزائري (ت 1883) وعمر المختار (ت 1931).
وفي زمننا هذا تلعب التكايا الكَسْنَزانية دوراً فعّالاً في التصدّي لأحد أكبر التحدّيات التي تواجه المسلمين وغير المسلمين وهو تنامي الحركات والنزعات المتطرّفة والتكفيرية والإرهابية، حيث تحارب التكايا الكَسْنَزانِيّة هذه الأفكار بتوضيح خروجها عن فكر الإسلام، وفضح تاريخ ظهورها وظروفه، وتعرية الأهداف الباطلة للحركات التي تتبنّى هذه الأفكار المنحرفة. ولذلك تعرّضت الكثير من تكايا العراق في السنين الأخيرة إلى هجمات من قبل جماعات إرهابية، مثل داعش، حيث فجّروا أو دمّروا أو حرقوا بشكل كامل أو جزئي حوالي أربعين تكية كَسْنَزانِيّة في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى وبغداد، كما قتلوا مئات الدراويش واختطفوا العشرات منهم.
ويعيّن شيخ الطريقة أحد خلفائه للإشراف على كل تكية، ويساعده في إدارتها خلفاء ودراويش آخرون. وعادة هنالك أكثر من تكية في المدينة الواحدة إذا كانت كبيرة وفيها عدد كبير نسبياً من المريدين. وفي هذه الحالة يعيّن شيخ الطريقة إحدى التكايا لتكون التكية الرئيسة في تلك المدينة، فيكون للخلفاء القائمين على خدمتها مسؤوليات إضافية في إيصال توجيهات الشيخ وغير ذلك من الأمور التنظيمية والإدارية إلى باقي التكايا.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، وسط الصورة، في جلسة مدائح في مسجد تكية بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).
وعندما لا تكون هنالك بناية مخصّصة كتكية في المنطقة، عادة بسبب قلّة عدد الدراويش أو عدم توفّر الإمكانيّات، فكإجراء وقتي يُستَأجر مكانٌ ليستخدم كتكية في أوقات الذكر والمناسبات، أو يقوم واحد أو أكثر من الدراويش بتخصيص غرفة منعزلة في بيته لتكون تكية. وحتى عند وجود بنايات متخصصة كتكايا فإن بعض المريدين يحب أن يخصّص غرفة في بيته لتكون بمثابة تكية، للتبرك أو لتسهيل القيام بأذكار الطريقة من غير الحاجة إلى الذهاب إلى التكية المخصّصة التي قد تكون بعيدة نسبياً. ولكن التكية التي لا تحتلّ بناية خاصّة بها لا تستطيع أن توفّر كل الخدمات التي تقدّمها البنايات المتخصّصة.
ولأن التكية هي من البيوت التي وصفها العزيز العليم بقوله: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ (النور/36-37)، فإن لزيارتها والتواجد فيها آدابٌ خاصة. فلا يجوز القيام في التكية بما يخالف أمور الدين، ولا يصحّ فيها الاشتغال بأمور الدنيا، قولاً أو فعلاً، بل يجب التركيز الكامل على العبادة وتعلّم أمور الدين وتعليمه. كما يجب على المريد المحافظة على نظافة التكية ونظامها مثلما يحافظ على بيته.
ولأنها بيت الذكر والعبادة وذكر الصالحين، فإن التكية مكان مبارك يتجلّى فيه نور الله على عباده، إذ قال عز وجل في الحديث القدسي: «أنا جليسُ مَن ذَكَرَني».[8] كما وصف النبي ﷺ حلقات الذكر بأنها من «رياض الجنة»،[9] ولأن التكية هي مكان الذكر، يصفها شيخنا بأنها «جزء من الجنة في الحياة الدنيا».[10] وتتبارك التكية بحضور أرواح مشايخ الطريقة ونزول الملائكة، لأنها مكان ذكر الله. ولكلّ ذلك يؤكّد شيخنا قدسيّة التكية.
وهذه البركة هي التي جعلت التكايا مقاصد للذين يعانون من مختلف الأمراض، بما فيها ما عجز الطب عن شفائه. فقد يُطلَب من المريض أن يجلس في وسط حلقة الذكر، أو أن يستلقي في مكان الاستراحة في التكية، أو يشرب من مائها أو يضع في الشاي سكّراً قد تبارك بوضعه في وسط حلقة الذكر. وهنالك أعداد لا تحصى من كرامات الشفاء الخارق لمختلف الأمراض عن طريق التبّرك بحاجيات من التكية.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في باحة تكية بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).
وفي بركة التكية وأجر خدمتها يقول الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان:
«أنا أتمنى لو أستطيع أن أنظّف وأغسل التكية بيدي كل يوم، كما كان يفعل عدد كبير من مشايخنا. فقد كانوا ينظّفون المسجد والتكية بلحاهم في سبيل الله، إرضاءً له، لأن التكية مكان مقدس. والتكية مذكورة في القرآن: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور/36). هذا بيت الله، بيت الرسول ﷺ».[11]
كما يقول في وجوب زيارة المريد للتكية بشكل متواصل لحضور حلقات الذكر والمشاركة في الأذكار والصلوات الجماعية:
«التكية رأس الطريقة، التكية قلب الطريقة، التكية مخ الطريقة. إذا تَرَكتَ التكية فقد تَرَكتَ الطريقة، وإذا التَزَمتَ بزيارة التكية فقد التَزَمتَ بالطريقة، بالعمل الصالح، بالإيمان، بالدروشة في سبيل الله، في سبيل الطريقة. من يترك التكية يترك الله سبحانه وتعالى».[12]
ويسترسل ناصحاً المريدين:
«فحين تذهبون إلى التكية فإنكم تجدّدون طريقتكم، وعهدكم، ومبايعتكم، وإيمانكم. قال رسول الله ﷺ: «جَدِّدوا إِيمانَكم». قالوا: «وكيف نُجدِّدُ إيمانَنا؟» قال: «أَكْثِروا مِن قَولِ لا إِلهَ إِلا الله».[13] فعندما تذهبون إلى التكية تذكرون الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّـهِ أَكْبَرُ﴾ (العنكبوت/45)».[14]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان (ربّما في بداية العقد الأول من القرن الحالي).
18-1 تكية الشيخ
يُسخّر الشيخ حياته كلها في خدمة الطريقة والإسلام والمسلمين، حتى حين يكون بين أهله، لذلك فإن بيته هو تكية. وتكية الشيخ هي التكية الرئيسة للطريقة في العالم ومركز إدارة الطريقة.
ومع ضرورة زيارة المريد بشكل مستمر لإحدى التكايا القريبة من منطقة سكنه، فهنالك أهميّة استثنائية لزيارة تكية الشيخ لأن فيها فوائد روحية خاصة. فإضافة إلى بركة كونها بيتاً من بيوت ذكر الله، فإن حضور شيخ الطريقة فيها بشكل دائم يضيف إليها بركة كونها مقام أحد عباد الله المقرَّبين. فزيارة المريد لتكية الشيخ، حتى حين لا يحظى برؤيته، لها بركة خاصة.
وكما ذكرنا سابقاً، فإن الصُّحْبة هي أساس الطريقة وحبل الوصول إلى الله، فالمُصاحَب، أي الشيخ، هو وسيلة ارتباط المُصاحِب، أي المريد، بالله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة/35)، لذلك فإن زيارة المريد للشيخ قدر استطاعته هو أحد الأعمدة الأساسية لسلوكه الصوفي. فالشيخ يزكّي المريد باطناً وظاهراً: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/١٥١).
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في مجلسه في تكية بغداد (بداية التسعينيّات).
ومن مظاهر بركة التكية التي يقيم فيها الشيخ، هو أنها تتبارك دائماً بحضور الرسول ﷺ ومشايخ الطريقة، لأنه وكيلهم الذي أجلسوه على كرسي نيابتهم. كان بعض المريدين في زيارة للشيخ حُسَين الكَسْنَزان حين أخبروه عن رغبتهم بزيارة مقام الشيخ إسماعيل الولياني، فتبسّم الشيخ وأذن لهم. فلما ذهبوا قال الشيخ: «إنّهم لا يدرون أن سيدنا إسماعيل الولياني كان لتوّه هنا».[15] وفي حادثة شبيهة، زار دراويش الشيخَ عبد الكريم الكَسْنَزان وأعربوا له عن رغبتهم بزيارة مقامات بعض الصالحين، فأعطاهم الإذن. لكن بعد أن عادوا من الزيارة سألهم: «ماذا وجدتم من الأحجار والجدران»؟ فأجابوا: «لا شيء يا شيخ»، فقال لهم الشيخ: «يا أبنائي، إن كل الذين تريدون زيارتهم موجودون هنا، ولذلك فإنكم حين تأتون هنا فإنكم تزوروهم جميعاً».[16] وهذا شيء منطقي وطبيعي لأن الرسول ﷺ ومشايخ الطريقة هم الذين يجعلون شيخ الطريقة وكيلهم بين الناس. ولم يرد الشيخ عبد الكريم بهذا ثني المريدين عن زيارة مقامات الصالحين، ولكنه أراد تثقيفهم بأن رغبة الدرويش في زيارة مقامٍ ما بينما هو في زيارة شيخه يعكس عدم اكتمال وعيه بأن أستاذه يمثّل كل مشايخ الطريقة وأن تكيته تمثّل مقاماتهم.
وفي نفس هذا المعنى تحدّث كاكا أحمد الشيخ، أحد كبار الأولياء، وهو ابن الشيخ معروف النوديهي بن الشيخ مصطفى بن الشيخ أحمد أخو الشيخ إسماعيل الوِلْياني، أحد أجداد شاه الكَسْنَزان. ففي طريق عودته من الحج زار شاه الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه، وخاطب الحضور موصياً إيّاهم: «من لا يستطيع أن يزور الغوث الأعظم الشيخ عبد القادِر الگيلاني في بغداد، فهذا ابن عمي الشيخ عبد الكريم شاه الكَسْنَزان يقوم مقامه، فزيارته هي بمثابة زيارة الشيخ عبد القادِر».[17] وفي هذا أيضاً إقرار هذا العارف بالله الكبير بفضل شاه الكَسْنَزان، علماً بأنه كان أكبر سناً من شاه الكَسْنَزان بأكثر من ثلاثين عاماً.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في وسط حلقة ذكر في البصرة (24 أيلول 1992).
وكما أن في تكية الشيخ بركة استثنائية، فإن رؤيته تجعل المريد يتلقّى من أنواره وفيوضاته الروحيّة ما يزكّيه ويساعده في التقرّب من الله. وإضافة إلى هذه الفوائد الروحية الباطنية فإن في لقاء الشيخ منافع ظاهرية جمّة. فلما كان الشيخ ممثل النبي ﷺ فإنه لا ينطق إلا بما يذكّر المريد بالله، وبما أنزله في القرآن الكريم، وبأقوال وأفعال وأحوال الرسول ﷺ، فمجلسه هو مكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومجلس الشيخ فيه ذكر مستمر لله وتذكير دائم به وبالنبي ﷺ وبمشايخ الطريقة وبالصالحين: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات/55). ولهذا قال شيخنا: «إن زيارة الشيخ تزيد عندك الإيمان والمحبة وتقوّي إيمانك وتريحك روحياً».[18] وأضاف في وصف فوائد زيارة الشيخ:
«بزيارة الشيخ تحصل على فوائد، تحصل على جلاء النفس، تحصل على القرب من الشيخ، تأخذ البركة من الشيخ، وتسمع من الشيخ، وتقتدي به… وإذا كانت لديك مشكلة، سواء ظاهرية أم باطنية، تعرضها عليه، لأنه شيخك ظاهراً وباطناً. فإذا كانت لديك أمراض باطنية في الطريقة، فهو الطبيب الذي يعالجك، وإذا وقعت لك أمور ظاهرية في الطريقة، فشيخك هو قدوتك الذي تسمع منه وتطبّق أقواله».[19]
كما أن في زيارة الشيخ «تجديد لعهد الطريقة، تجديد للإيمان، تجديد للولاء، تجديد لكون المريد ابن الشيخ روحياً، تجديد للربط الروحي مع الشيخ، تجديد لمبايعة المريد لله».[20] ويستشهد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بكلام الشيخ عبد القادِر الگيلاني على ضرورة زيارة المريد لشيخه على الأقل مرة في السنة، وواجب الخليفة في الزيارة أكثر. وحين كان شيخنا في بغداد، وجّه خلفاء التكايا الفرعية في بغداد، ومن يستطيع من خلفاء التكايا في المحافظات القريبة من بغداد، بضرورة حضور الذكر الرسمي ليلة الخميس في التكية الرئيسة.
18-2 كرامات بناء التكايا
لأن التكايا هي أماكن ذكر الله ولها بركة خاصة فهنالك دائماً كرامات ترافق اختيار مواقعها وبنائها، وسنذكر هنا إحداها، وهي كرامة بناء إن التكية الرئيسة في مدينة الرمادي هي أول تكية كبيرة تُبنى خارج المنطقة الشمالية في العراق. [21]
في بداية عام 1966 استدعى الجيش المشمولين بالالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية في تلك السنة، وكان أحدهم الخليفة ياسين صوفي، وكانت المدينة التي سيقضي فيها خدمته العسكرية هي الرمادي، غرب مدينة بغداد، في محافظة الأنبار. كان الخليفة متردّداً بشأن الالتحاق بالخدمة العسكرية والذهاب بعيداً عن الشيخ عبد الكريم في كركوك وعن أهله في محافظة أربيل في شمال العراق، فزار الشيخ عبد الكريم وسأله عن الأمر. قال له الشيخ عبد الكريم أولاً بأن لا يذهب، ولكن بعد عشرة دقائق أرسل في طلبه وقال له بأن يذهب وإن شاء الله سيكون في ذهابه خير، وأوصاه بالإرشاد.
بعد حوالي الشهر من استقراره في الرمادي، استأجر ياسين بيتاً ليكون بمثابة تكية يقيم فيها الدراويش الذكر ويرشدون إلى الطريقة، كما وجّهه الشيخ عبد الكريم. وهكذا بدأت الطريقة الكَسْنَزانِيّة بالانتشار في تلك المدينة.
وفي منتصف عام 1970، جاء قرار تسريح دورة الخليفة ياسين، فودّع الدراويش في الرمادي بنيّة العودة للعيش في شمال العراق. وذهب لزيارة الشيخ عبد الكريم في كركوك، فلمّا دخل عليه وقبل أن يقبّل يده، أمره بأن يعود إلى الرمادي ويستقر هنالك، قائلاً له بأن هذا هو أمر السلطان حسين.
مسجد التكية الرئيسة في بغداد (بداية التسعينيّات).
لم تكن التكية الصغيرة توفّر كل خدمات ونشاطات التكية المتخصّصة، كما كان الدراويش يتعرّضون إلى مضايقات لإقامتهم الذكر وجلسات الإرشاد في بيت مخصّص أصلاً للسكن وليس تكية أو مسجداً. فطلب ياسين يوماً في سرّه بأن يصبح للطريقة بناية خاصّة للتكية. وفي اليوم التالي، خابره أحد وجهاء العشائر في الرمادي، «الحاج قاسم الصفّار»، وطلب زيارته لأمر ما. بعد وصول الخليفة قام الحاج قاسم بالاتصال بشخص اسمه «نجم حمّاد» وطلب منه المجيء، ثم شرح للخليفة الأمر. كان الرجل القادم غير ملتزم دينياً ولا يعير اهتماماً لما هو حلال أو حرام، ولكن زوجته المريضة كانت قد شاهدت في المنام رؤيا قيل لها فيها بأن علاجها الوحيد هو أن تضع كف راية كَسْنَزانيّة قرب مصدر ماء وتغتسل به في مكان طاهر بحيث لا يذهب ماء الاغتسال مع المياه القذرة. وكف راية كَسْنَزانِيّة هو القطعة الحديدية التي توضع على رأس العمود الخشبي الذي يُلَف حوله أي عَلَم يحمل اسم الطريقة، حيث توضع الأعلام في التكايا، كما يحملها الدراويش عادة حين يذهبون في رحلات إرشاد. لم تخبر المرأة زوجها بالرؤيا في البدء، ولكنها تكرّرت في الليلة التالية، ولاحظ عليها زوجها شرود ذهنها، فلما سألها عما ألمَّ بها أخبرته بما شاهدت. ولكنّها نبّهته بأنهما إذا أرادا الاتصال بمريدين كَسْنَزانيين لهذا الغرض فإنهم سيطلبون منهم أخذ البيعة. فلما جاء الزوج إلى بيت الحاج قاسم، أخبره الخليفة ياسين بأنه وزوجته يجب أن يأخذا البيعة وسيعيرهما كف راية كَسْنَزانيّة. وأخذا البيعة ونفّذت الزوجة ما رأته في المنام فشُفيت مباشرة.
وفي اليوم التالي، أرسل الزوجان في طلب الخليفة ياسين، وقالت له الزوجة بأنها كانت قد نذرت التبرّع بمبلغ 300 دينار إذا شفيت، وعرضت عليه المبلغ لكي يشتري أرضاً لبناء تكية، رغم أنّها لم تكن على علم بأن الخليفة كان قد دعا قبل أيام بأن يتمكّن من بناء تكية. شكرها الخليفة وطلب منها أن تحتفظ بالمبلغ عندها لحين حاجته له. ثم بحث عن أرض في نفس منطقة التكية الحاليّة، فأخذه أحدهم لرؤية قطعة أرض أعجبته. فلما سأل عنها اتّضح بأنها ملك والد زوج المرأة التي شفيت بكرامة الطريقة! فذهب الخليفة إلى صاحِب الأرض، الذي أخذ هو الآخر البيعة، وذكر له بأنه سمع بأن لديه أرضاً للبيع وطلب منه أن يذهب معه لرؤيتها، حيث كان في تلك المنطقة عدد من الأراضي وأراد الخليفة أن يتأكد فعلاً من أن الأرض التي يريدها هي التي يملكها ذلك الرجل. وفعلاً أخذه المالك إلى نفس الأرض، فقال له الخليفة بأنه يريد أن يشتريها وأن ابنه سيدفع ثمنها. قال صاحِب الأرض بأنه كان قد عُرِضَ عليه مبلغ 200 دينار لبيع الأرض ولكنه رفض العرض، ولكن لما كانت الأرض هي لبناء تكية فإنه سيبيعها إلى الخليفة بمبلغ 150 دينار. واكتمل بناء التكية في عام 1971.
وهنالك كرامة ذات صلة حدثت قبل ذلك بسنين، أي قبل أن يظهر أمر هذه التكية. زار درويش من أهل الأحوال اسمه «مجيد» الخليفة ياسين في الرمادي. وكان الرجلان يسيران في طريق قريب من الأرض التي كان مكتوباً لها أن تكون موقع التكية مُستقبلاً، وكان مجيد يمسك بعصا في رأسها كلّاب حديدي يستخدم عادةً لحاجات مثل قلع نبات ما. وكان يتوقّف كل حينٍ وآخر ليقلع حجارة من أرض الطريق. فطلب منه ياسين أن يعجّل بالسير لحرارة شمس الصيف، فإذا بمجيد يجيبه بأن هذا طريق سيمر به يوماً الشيخ عبد الكريم. ثم مشى قليلاً قبل أن يتوقّف مرّة أخرى ويقول «وهذا عدو» قبل أن يقلع حجارة بعصاه، أي كأنه كان بأفعاله الرمزية هذه يعبّد الطريق الذي سيسلكه الشيخ عبد الكريم بعد سنين. فسأله ياسين مرّة أخرى عما كان يفعل، فأقسم مجيد وكرّر قوله بأنه سيأتي يوم يرى فيه الخليفة الشيخ عبد الكريم يمر من ذلك الطريق. وفعلاً مّر الشيخ عبد الكريم من ذلك الطريق حين زار التكية الرئيسة في الرمادي بعد اكتمالها.
وزار الشيخ عبد الكريم الرمادي مرّتين، الأولى في عام 1970، والثانية في عام 1972 بعد بناء التكية الرئيسة. وفُتِحَت تكيتان أخريان في الرمادي خلال حياة الشيخ عبد الكريم. وأكمل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد ما بدأه سَلَفَهُ، فسخّر الكثير من الجهود للإرشاد في الرمادي، بما في ذلك زيارته لها عدة مرات بعد استقراره في بغداد، فازداد عدد التكايا هنالك بشكل كبير وأخذ الكثير من سكان المدينة بيعة الطريقة الكَسْنَزانيّة.
[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 27 أيلول 2012.
[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الثاني 2010.
[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 2 نيسان 2000.
[4] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 7 تموز 2000.
[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 7 تموز 2000.
[6] فتوحي، السيد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيْنِي، 157-159.
[7] جاب الله، «دور الطرق الصوفية والزوايا في المجتمع الجزائري».
[8] البيهقي، شعب الإيمان، ج 1، ح 680، ص 451.
[9] الترمذي، الجامع الكبير، ج 5، ح 3510، ص 488.
[10] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 7 تموز 2000.
[11] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 27 أيلول 2012.
[12]الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 7 كانون الثاني 2010.
[13] أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج 14، ح 8710، ص 328.
[14] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 7 كانون الثاني 2010.
[15] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، التاريخ غير معروف
[16] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الأول 2005.
[17] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الأول 2005.
[18] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الأول 2005.
[19] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 19 أيلول 2012.
[20] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 26 تشرين الأول 2012.
[21] لأمثلة أخرى على مثل هذه الكرامات، أنظر فتوحي، السيد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيْنِي، 293-302.
لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
http://twitter.com/louayfatoohi
http://www.instagram.com/Louayfatoohi