الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في تكية عمّان، الأردن، (ربما 2018).
«القوم لهم أعمال كالجبال من الخير وهم لا يعدّونها عملاً. يتواضعون ويذلّون أنفسهم. كن عاقلاً على قدم ذُلِّك وتواضُعِك. كُن على قدم التواضع والحذر والخوف من المحو، ومن كدر صفاء السر وضيقه وضيق الصدر. إذا دمت على ذلك جاءك الأمن من الله عز وجل وقد ختم على قلبك وسرّك وانكتب على حيطان خلوتك. يصير لها ولجوارحك إشارات وألسن وتسبيح وذكر، يسمع قلبك عجائباً ولا يخرج الى فَيِّكَ منه كلمة. لا يسمع ظاهرك والخلق منه كلمة. يكون شيئاً لا يتعدّاك، يصير ذلك نعمةً تعرفها، تتحدّث بها في نفسك: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى/11). يا ولي، تحدّث بهذه النعمة الباطنة أنت ونفسك. وأنت يا نبي، تحدّث بنعمة ربّك عز وجل وكرامته لك مع الخَلق، لأن الولي من شرطه الكتمان والنبي من شرطه الإظهار. إظهار أمر الولي الى الله عز وجل، فإن أظهر هو أمره أبتُلي وسُلِب حاله. أما إذا أظهر أمره بلا أمرِه، بمجرّد فعل الله عز وجل، فلا يكون عليه مؤاخذة ولا عتاب، إذ فاعل ذلك غيره لا هو. قال لي قائل: «أرى كل من وقع به حالٌ يكتمه وأنت تُظهره!» قلتُ: «ويحك، ما أَظهرنا شيئاً! هذا يظهر غلبَةً لا قصداً. كلّما امتلأ حوضي نَقّصْتُهُ، فإذا جاء السيل غَلَبَه وفاضَ حواليه بلا اختياري؛ ماذا أفعل؟»».
الشيخ عبد القادِر الگيلاني (جلاء الخاطر، ص 51)
يُعرَف الفعل الخارق للعادة الذي يصدر عن ولي من أولياء الله بمصطلح «كرامة» تمييزاً له عن الفعل الخارق لنبي الذي يُطلَق عليه مصطلح «معجزة». وعُرِف عن مشايخ التصوّف على مر التاريخ كرامات لا حصر لها مسّت حياة عدد لا يُحصى من الناس، مريدين وغير مريدين. بل تَخطٌّ الكراماتُ جزءاً كبيراً من حياة شيخ الطريقة، حتى من قبل أن يُولد، كما سنرى في سير مشايخ الطريقة في الجزء الثاني من الكتاب. فترى الخارق من الحوادث يتداخل باستمرار مع العادي منها ليكون كل يوم من حياة شيخ الطريقة مليئاً بالبراهين على تأييده من الله تعالى وبالتالي على صدق دعواه وسيره على القرآن الكريم وسُنَّة الرسول ﷺ. فالكرامات هي الحِبْر الذي تُكتَب به سِيَر المشايخ، لذلك لا تكتمل دراسة التصوّف وفهم سير أساتذته من دون دراسة مفهوم الكرامة. وسنتطرق أولاً إلى مفهومي المعجزة والكرامة والفرق بينهما، لنبيّن بأن الكرامة هي من المظاهر الرئيسة للقرب من الله.
1-5 المعجزة
أيَّدَ الله أنبياءه بخوارق للعادات اقترنت بهم بشكل أو بآخر، قاموا ببعضها وحدث لهم بعضها الآخر. وأطلق علماء المسلمين على هذه الخوارق تعبير «معجزات»، الذي مفرده «معجزة». والكلمة مُشتَقّة من الجذر «عَجَزَ»، الذي يعني «لم يقدِر»، في إشارة إلى حقيقة أن المعجزة تتجاوز القدرات الطبيعية، أي أنها لا يمكن أن تحدث في الظروف الطبيعية. وترد مشتقات هذا الجذر ستٌ وعشرون مرّة في القرآن الكريم، كما في هذا المثال: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ (الأنعام/١٣٤).
ولما كانت المعجزات مستحيلة الحدوث وفقاً لقوانين الطبيعة، فإن القرآن يقدّمها على أنها براهين على أن الأنبياء هم حقاً رُسُل الله القادِر على كل شيء. فهي آيات دالّة على وجود الله وعلى صدق رسالة الأنبياء الذين ظهرت على أيديهم هذه الخوارق. ويقول شيخنا[1] بأن الهدف من معجزات النبي هو «إثبات أن ذلك النبي مُرسَلٌ من الله. والمعجزة دليل لإثبات وجود الذات (الإلهية)، لإثبات واجب الوجود».[2] فالله هو خالق القوانين وهو قادر على تعطيلها وتبديلها متى شاء، كما يقول الشيخ عبد القادِر الگيلاني:
«اعتقاد المتبعين لكتاب الله وسُنّة رسوله ﷺ هو أن السيف لا يقطع بطبعه، بل الله عز وجل يَقطَعُ به؛ وأن النار لا تحرق بطبعها، بل الله عز وجل المُحرِق بها؛ وأن الطعام لا يُشبِع بطبعه، بل الله عز وجل يُشبِعُ به؛ وأن الماء لا يروي بطبعه، بل الله عز وجل يُروي به. وهكذا جميع الأشياء على اختلاف الأجناس، الله عز وجل المتصرِّف فيها وبها، وهي آلة بين يديه يفعل بها ما يشاء».[3]
ويذكر القرآن الكثير من المعجزات التي قام بها عدد من الأنبياء. فموسى مثلاً كان قادراً على تحويل عصاه إلى حَيّة والقيام بمعجزات أخرى بها، مثل فرق البحر ليجعل فيه طريقاً يابساً يسلكه بنو إسرائيل في هروبهم من فرعون وجنوده (طه/9-79، الشعراء/10-66). وكذلك يخبرنا الله بأن النبي عيسى تكلّمَ في المهد، وأبدى حكمة بالغة وهو طفل رضيع، وخلق أشكال طيرٍ من الطين ثم نفخ فيها الحياة، وشفى الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى، وعلِمَ بما كان يُخفي الناس في بيوتهم، وأنزل مائدة من السماء (آل عمران/45-48، المائدة/110-115، مريم/23-33).
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يدخل إلى المكتبة البريطانية في لندن في إحدى زياراته اليومية لها (منتصف 2000).
أما النبي مُحَمَّد ﷺ، فيدّعي البعض بأنه لم يقم بمعجزات مثل الذين سبقوه وأن القرآن هو معجزته الوحيدة. إن القرآن معجزة فريدة تشهد بنبوة مُحَمَّد ﷺ، ولكن كتاب الله نفسه سجّل عدداً من معجزات الرسول ﷺ بما فيها ما يلي:
- الإسراء: أسرى الله عز وجل بالرسول ﷺ من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء/1).
- المعراج: عرج الله بالنبي ﷺ إلى السماء: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (٢) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (٩) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (١٣) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (١٤) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (١٦) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (١٧) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ (النجم/1-18).
- معرفة حوادث مستقبلية: تبيّن هذه الآية الكريمة بأن الرسول ﷺ شاهد في الرؤيا دخوله والمسلمين المسجد الحرام منتصرين: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح/٢٧).
- معرفة أسرار الناس: كما ترينا هذه الآية الكريمة بأن الله كان يكشف للرسول ﷺ أسراراً كتمها الناس: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (التحريم/3).
- انشقاق القمر: حاجج أهل مكة الرسول ﷺ أن يريهم آية تبرهن لهم بأنه نبي مُرسَل من الله، فطلب من الله أن يريهم معجزة فانشقَّ القمر إلى نصفين. ويُعتَقَد بأن هذه الآية تشير إلى تلك المعجزة: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر/1).[4]
- الرمي الخارق: خلال معركة بدر أخذ الرسول ﷺ بكفه من تراب الأرض وحصاها ورمى بها في اتجاه المشركين، فأصابتهم وآذتهم وأربكتهم مما ساعد المسلمين في تحقيق أول انتصار لهم في القتال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال/١٧).
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، تكية بغداد (النصف الثاني من التسعينيات).
تبيّن معجزات فريدة مثل الإسراء والمعراج درجة قرب النبي ﷺ من الله، ولابد أن هذا القرب جعله مصدر الكثير من المعجزات. فسجّلت كتب السيرة والحديث الكثير من هذه الخوارق التي بدأت منذ ولادته الشريفة، وفيما يلي بعض معجزاته بعد البعثة:
- معجزات الهجرة: رافق الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة عدد من المعجزات. أولاً، خرج النبي ﷺ في نفس الليلة التي كان المشركون قد قرروا اغتياله. ثانياً، حين غادر الرسول ﷺ بيته كان المتآمرون ينتظرون خارجه، فرمى عليهم حفنة من التراب وهو يقرأ آيات من القرآن الكريم فلم يروه.[5] ثالثاً، حين اختبأ النبي ﷺ وصاحبه أبو بكر في كهف ثَور وهم في طريقهم من مكّة إلى المدينة، أيّد الله النبي ﷺ بجنود غير مرئيين: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة/40). وذكر العلماء والمؤرخون بأن من هذه المعجزات هو أن عنكبوتاً نسج بيتاً على مدخل الكهف،[6] وأن شجرة نبتت على وجه الغار فسترته، كما وقفت حمامتان برّيّتان ببابه،[7] فلما وصل المشركون إلى الكهف بدا وكأنه لم يدخله أحد منذ فترة طويلة فلم يفكّروا في تفتيشه.
- شفاء خارق: شفى الرسول ﷺ بشكل خارق للعادة مختلف الأمراض. ومن ذلك أنه نفخ على عيني طفل أعمى فأعاد إليه بصره، بل وبقي بصره من الحدّة وهو في سن الثمانين حتى كان يدخل الخيط في ثقب الإبرة. وجاءت امرأة بطفل لها احترقت ذراعه بعد أن سقَطَ على يده قدر طبخ ساخن، ففرك من لعابه على الذراع المصابة فشفيت في الحال.[8]
- مخاطبة الحيوانات للنبي ﷺ وإقرارها بنبوته: هنالك الكثير من الروايات عن تكلّم الرسول ﷺ مع حيوانات. في بعض هذه المعجزات كان الحضور أيضاً يفهمون الحوار الدائر باللغة العربية. في إحدى هذه الخوارق قال أعرابي للنبي ﷺ بأنه لن يؤمن به إلا إذا آمن به ذكر سحلية كان يحمله معه. فلما خاطب الرسول ﷺ الحيوان، أجابه وأعلن إيمانه به، فأسلم الأعرابي.[9] وفي معجزة أخرى اشتكى طيرٌ إلى النبي بأن فرخيه قد سُرِقا من عشّهما، فلما سأل عمّن أخذهما اعترف البعض بذلك فأمرهم بردّهما ففعلوا.[10]
- تبجيل الحيوانات للرسول ﷺ: اشتكى رجل إلى النبي ﷺ بأن جملاً له توقف عن طاعته فلم يعد يستطع استخدامه لسقي نخلة له وأصبح عدوانياً في تصرفاته. فمشى ﷺ إلى الجمل الذي ما إن رأى الرسول ﷺ حتى أقبل يمشي واضعاً رأسه بين يديه حتى سجد له، فطلب من صاحِبِه أن يخطمه ويرحل به بعد أن عاد مطاوعاً.[11]
- حنين جذع النخلة إليه: كان النبي ﷺ يستند إلى جذع نخلة حين يخطب بالمسلمين. ولكن بعد أن بنوا له منبراً وذهب ليخطب منه أول مرة أنَّ الجذع حنيناً له ﷺ، فذهب إليه وحضنه فسَكَن.[12]
- تفجّر الماء من بين أصابعه: كان النبي ﷺ مسافراً في صُحْبة ما يقارب ألفاً وخمسمائة مسلم حين قارب ما لديهم من الماء على النفاد وقد حضرتهم الصلاة. فطلب الرسول ﷺ ماءً فصبّه في إناء ثم وضع كفّه الشريفة فيه فأخذ الماء يتفجّر من كفّه فخرج من الماء ما كفاهم كل حاجاتهم. [13]
- التنبؤ بحوادث مستقبلية: تروي السيدة عائشة بأنه حين كان النبي ﷺ في مرضه الأخير دعا ابنته السيدة فاطمة الزهراء فأسرّها سرّاً فبكت. فلما رأى حزنها دعاها مرة أخرى وأسرّها أمراً ثانياً فضحكت. فلما سألتها السيدة عائشة عما أسرّها به، لم تكشف بنت رسول الله ﷺ السرّ حينئذ، ولكن حين سألتها مرّة أخرى بعد انتقاله ﷺ من هذا العالم، أخبرتها بأنه أنبأها أولاً بأنه سيُقبَض في وجعه ذاك، فأبكاها ذلك، ثم أنبأها بعد ذلك بأنها ستكون أول من يلحق به من أهل بيته، فسرّتها البشرى وأضحكتها. ولم يتعافَ النبي ﷺ من ذلك المرض، وكذلك توفّت السيدة فاطمة بعده بحوالي الشهرين ولم تبلغ الثلاثين عاماً[14].
كان صحابة النبي ﷺ شهوداً لمعجزاته التي لم تتوقّف، وهذا الشهود العياني كان ضرورياً ليكون لهم ذلك الإيمان العظيم الذي دفعهم إلى التضحية بالغالي والنفيس في سبيل الإسلام ورسوله ﷺ.
2-5 الكرامة
ليس فعل الخوارق أو شهودها أو التعرّض لها حصراً على الأنبياء، لأنها ليست خاصة بالنبوّة، وإنما هي ثمرة القرب من الله. ويذكر القرآن الكريم أفراداً قريبين من الله مرّوا بخبرات شبيهة. أحدهم الخَضِر (عليه السلام) الذي أبدى علماً بأمورٍ غيبية خفيت وعصي فهمها حتى على نبيٌ من أهل العزم آتاه الله الكتاب، أي موسى (عليه السلام) (الكهف/60-82). ومنهم السيدة مريم التي آتاها الله عدداً من الخوارق، فقد كانت ترى جبريل والملائكة عياناً وتحدّثهم (آل عمران/42)، وكان يأتيها الطعام بشكل خارق (آل عمران/37)، وحملت من غير أن يمسّها رجل (آل عمران/45-47). وهنالك أيضاً أهل الكهف الذين أَنامهم الله لأكثر من ثلاثة قرون ثم بعثهم من نومهم (الكهف/9-52).
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في تكية عمّان (11 كانون الأول 2013).
وتُعرَف خوارق غير الأنبياء بتعبير «الكرامة» المشتقّ من قوله تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/13)، لارتباط الكرامة بالتقوى التي هي مقياس القرب من الله. وتقترن الكرامة بأولياء الله، حيث يُطلِق الله في القرآن على الشخص المقرَّب منه تعبير «ولي»، والذي يعني «نصير» أي «نصير الله». ونرى أيضاً معنى القرب في تعبير «ولي» من صلته بالفعل «يلي»، الذي يشير إلى ما يأتي بعد الشيء أو الشخص أو الأمر من غير فاصل بينهما: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس/62).
وحصول الكرامات للمرء مرتبط بشكل مباشر بطاعته لله وممارسته لرياضات روحية، كالصوم عن الطعام، تهدف إلى السيطرة على غرائزه وميوله الدنيوية. ولذلك نبَّهَ الشيخُ ابن عطاء الله السكندري السائلَ عن الكرامات: «كيف تُخرَق لَكَ العوائِدُ وأنتَ لم تَخرقْ من نفسك العوائد؟».[15]
وفيما يلي أحد الأحاديث النبوية الشريفة عن أولياء الله رواه عمر بن الخطّاب:
«قال النبي ﷺ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ». قالوا: «يا رسول الله، تخبرنا من هم؟» قال: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللهِ عَلَى غَيْرِ أرحامٍ بينهم، ولا أَمْوَالٍ يتعاطونها. فوالله إن وُجُوهَهُمْ لنُورٌ، وإنهم لعلى نُورٍ. لَا يَخَافُونَ إذا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إذا حَزِنَ النَّاسُ»، وقرأ هذه الآية: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس/62)».[16]
من الطبيعي أنه نتيجة لاتّباعهم للنبي ﷺ، وبالتالي قربهم من الله، فقد خُرِقَت للصحابة والتابعين وغيرهم من المتّقين العادات. وفيما يلي نماذج من كرامات الصحابة والتابعين:
- أرسل الخليفة عمر جيشاً إلى نهاوند وعيّن سارِية بن زَنيم قائداً عليه. وفي يوم جمعة كان يلقي الخطبة حين قطعها فجأة وصاح: «يا سارِية الجبل، يا سارِية الجبل، يا سارِية الجبل». لم يفهم عمر نفسه، ناهيك عن الحضور، لِمَ فعلّ ذلك، ولكن جاء التأويل بعد بضعة أيّام. فحين عاد الجيش من القتال، قال سارِية بأنه حين حوصِرَ جيش المسلمين سمع صوت عمر يناديه «يا سارِية الجبل»، فأمر الجيش باتّخاذ الجبل حصناً يحميه من الخلف، وساعدت هذه المناورة جيش المسلمين في الانتصار.[17]
- غادر أُسَيد بن حُضَير وعَبّاد بن بِشر النبي ﷺ بعد زيارة وكانت الليلة مظلمة جداَ، فأضاءت عصا أحدهما فغدت كالسراج، فمشيا في ضوئها، فلما افترقا أضاءت عصا الآخر.[18]
- حين أُسِرَ الصحابي خُبَيب بن عَدي من قبل المشركين، شوهِدَ وهو في الأغلال يأكل عنباً رغم عدم توفّره في مكة في ذلك الوقت من السنة.[19]
- كان التابعي عامر بن عبد قيس يضع ما كَسَبَ في طرف ردائه ويعطي منه كل من يسأله في الطريق. ولكنه حين يصل البيت ويعطي ما في ردائه لأهله كانوا يعدّونه فيجدوه لم ينقص عمّا كان قد كَسَبَ.[20] ومن كراماته أن دعا الله أن يسهّل عليه التطهّر في الشتاء فكان يجد الماء ذا بخار من حرارته.[21]
- حين ادّعى الأسود بن قيس في اليمن بأنه نبي، حاول إجبار أبي مسلم الخولاني على أن يؤمن به، لكن التابعي أصرّ على إيمانه بنبوة مُحَمَّد ﷺ ورفض ادّعاء الأسود. فغضب هذا وأمر بأن تُؤَجَّجَ نارٌ عظيمة يُلقى فيها أبو مسلم، ولكنّها لم تضرّه شيئاً.[22]
ولم يميّز علماء المسلمين الأوائل بين خوارق عادات الأنبياء والأولياء، فغالباً ما استخدموا مصطلح «آية» للاثنين، باعتبار أنها تمثّل براهينَ من الله تؤكد مصداقية رسالة النبي مُحَمَّد ﷺ.[23] فعلى سبيل المثال، يحتوي مُصنَّف عبد الرزاق بن همّام الصنعاني (ت 211 هـ)، أحد أقدم الكتب التي جمعت الحديث النبوي، باباً اسمه «ما يُعجَّل لأهل اليقين من الآيات»[24] سرد فيه عدداً من كرامات الصحابة. وكما نرى في عنوان الفصل فإنه يربط بين الكرامات والإيمان. وللبخاري في صحيحه فصلٌ سمّاه «عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ» ذكر فيه العديد من معجزات النبي ﷺ وكرامتين لصحابيَّين.[25] فمن الواضح من عنواني الفصلين ومحتوياتهما بأن جامِعَي الحديث اعتبرا خوارق الصحابة صادرة عن بركة النبي ﷺ، ولذلك تقوم بنفس وظيفة المعجزات في التدليل على إلهية رسالته. وكذلك نجد الكتب التي جمعت معجزات الرسول ﷺ تذكر أيضاً كرامات الصحابة، مثل كتاب «دلائل النبوّة» للأصبهاني[26] وكتاب يحمل نفس العنوان للبيهقي. [27]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان وخلفه الخليفة كامل شهاب (ثمانينيّات القرن الماضي).
ادّعى البعض بأنه لا يمكن لكرامة أن تكون من نفس نوع خرق العادة لمعجزة، إلا أن هذا التمييز بين المعجزة والكرامة ليس له أساس في القرآن. وغالباً ما يستشهد هؤلاء العلماء بمعجزة موسى في شق البحر، ولكن هذا اختيار متعمّد لمعجزة فريدة، بينما هنالك معجزات لها أشباه من الكرامات. فمثلاً قام عيسى بمعجزات شفاء خارق، وهنالك عدد لا حصر له من الكرامات الشبيهة لهذا النوع من الخوارق. فالمعجزات الوحيدة التي لا يمكن تكرارها هي تلك الخاصة بنبوة النبي المعيّن، كالكتب التي أنزلها الله على بعض الأنبياء، لأن الولي هو بالتعريف ليس بنبي. ففي حالة نبينا ﷺ، على سبيل المثال، إن القرآن معجزة خاصة بنبوّته، فلا يمكن لولي مهما كانت مكانته أن يكون له مثلها. ولكن هذا لا يعني بأنه لا يمكن لولي أن يتلقّى أي وحي من الله، فكلامنا هنا هو عن الوحي القرآني حصراً، الذي لا يمكن لمثله أن ينزل على أحد بعد مُحَمَّد ﷺ. ولكن وحي الله يأتي بأشكال مختلفة، فمثلاً أوحى الله إلى أم موسى رغم أنها لم تكن من الأنبياء: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص/٧). فأخبرها بوسيلة تحمي بها وليدها، كما كشف لها معلومة غيبية غاية في الأهمية وهي أنه سيجعل ابنها من الرُسُل. وينسب أستاذنا إلى مشايخ طريقتنا قولهم بأن العمل الخارق الوحيد الذي لا يقومون به، وإن كان بمقدورهم، أن يولد ولدٌ من غير أب، أي كمعجزة خلق عيسى الفريدة.
فلا يوجد دليل على أن هنالك أي تمييز بين المعجزة والكرامة من ناحية طبيعة الفعل الخارق. ونجد إشارة إلى هذا أيضاً في قول النبي ﷺ: «رُبَّ أشْعَثٌ مدفوعٍ بالأبوابِ لو أَقْسَمَ على اللهِ لأبَرَّه»،[28] حيث لا يقصر ما يمكن أن يطلبه الصالح من الله على خوارق معينة. ويؤكّد هذه الحقيقة أيضاً هذا الحديث القدسي[29] الذي نقله النبي ﷺ عن رب العزة والذي يشرح طبيعة ما يمكن أن ينعم الله به على الولي من الخوارق:
«مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».[30]
فمثلما لا توجد حدود لقدرة الله نوعاً أو كمّاً، فلا حدّ لطبيعة الخوارق التي يهبها لعباده. فمن يسمع بالله يمكن أن يسمع أي صوت مهما خَفُتَ وبَعُدَ؛ ومن ينظر بالله يمكن أن يرى ما خَفِيَ في السماء والأرض؛ ومن ضربت يده بالله، لم يُعجِزه شيء؛ ومن مشى بالله، طُوِيَت له المسافات وكأنها لم تكن. ويشير المتصوّفون إلى أشكال الخوارق المختلفة التي يمنّها الله على عباده، فتُفتَح لحواسهم ومداركهم الآفاق، بتعابير مثل «جلاء البصر»، و «جلاء السمع»، و «جلاء القلب». إذ ينعم الله على من يتقّرب منه بما يشاء من قوة روحية، ولذلك فإن كرامات الولي يمكن أن تكون بأي شكل من الخوارق، وهذا ما يكتشفه سريعاً كل من يدرس الكرامات أو يشهدها.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية بغداد (9 حزيران 1992).
ويعني الحديث القدسي أعلاه بأن الكرامات لا يمكن أن تتوقف عن الحدوث، لأن العالمَ لا يخلو من أولياء الله الصالحين، والقرب من الله هو سبب الكرامة. وهنالك كثير من الناس ممن يؤمن بالكرامات ولكن معرفتهم بها تقتصر على ما قد قرأوه في كتب التاريخ والسير، فظنوا أنها مما حدث للصالحين في الماضي فقط. ولكن هذا الظن الخاطئ يعكس جهلاً بسبب حدوث الكرامة، وهو القرب من الله، وهذا ليس بمقصور على أهل زمان معيّن دون غيرهم، كما يبيّن غفلة عما لا يُحصى من الكرامات التي حدثت وتحدث في كل زمان. كما يعكس ذلك الظن الخاطئ الجهل بدور الكرامة، لأن دورها هو الآخر يوجِب استمرار حدوثها، كما سنرى في القسم التالي.
3-5 وظيفة الكرامة
اتّفق العلماء على أن معجزات النبي وكرامات الولي هي آيات من الله للناس تصدّق دعوة ذلك النبي. فالسبب الرئيس أن الله أذن بالكرامات ولم يقصر خوارق العادات على المعجزات هو إن الناس في كل زمان ومكان يحتاجون، إضافة إلى الحجج العقلية، إلى الخوارق لكي تجذبهم للدين وتثبّت إيمانهم. فمن غير المنطقي الظن بأن يكون الناس في وقت ظهور نبي ما بحاجة إلى معجزات لكي يصدّقوه ولا تكون للأجيال اللاحقة نفس الحاجة، إن لم تكن أكبر، إلى خوارق تؤكّد لهم صحة عقيدتهم. فمُحَمَّد ﷺ كان يُعرَف في مكة قبل البعثة بوصف «الصادق الأمين»، ولكن ذلك لم يُغنِ الناس عن معجزات تؤكّد لهم صدق دعواه بنزول كتابٍ من الله عليه وأمانته في نقله إليهم، فصدَرَت عنه المعجزات. ولم تقلّ الحاجة إلى المعجزات في السنين اللاحقة عنها في بداية البعثة، لأن النبي ﷺ كان في حالة إرشاد مستمر لأفراد وأقوام جدد، فكانت حياته كلّها خوارق. فبالمعجزات جذب الله أعداداً غفيرة من الناس في شبه جزيرة العرب وخارجها كانوا يعيشون على غزو بعضهم البعض وبينهم تاريخ من العداوة والبغضاء والانتقام يعود إلى عشرات السنين وجعلهم إخواناً يضحّون بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله:
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران/103).
﴿وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّـهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال/62-٦٣).
ويؤكّد شيخنا، خلافاً لما يدّعيه أعداء الإسلام، بأن الرسول ﷺ لم ينشر الدين بالقوة، إذ لم يكن جهاد المسلمين الأوائل بالسلاح إلا دفاعاً عن النفس في بيئة عدائيّة لم تسمح لهم باعتناق وممارسة الدين الذي اختاره الله لهم فاختاروه لأنفسهم. ويجب أن لا ننسى بأن عرب الجاهلية اعتادوا القتال والحروب، فما كان استخدام السلاح لإجبارهم على دخول الإسلام سيقودهم إلى إيمان حقيقي به، ناهيك عن البقاء عليه. كما لو كان الإسلام قد انتشر في أول أمره بالعنف والسلاح، لما كان سيكون أكثر نجاحاً من غيره من الحملات العسكرية التي قد تحقّق أهدافاً ما لفترة من الزمن قبل أن تتبعها حملات تغيّر تلك الإنجازات أو تمحوها بالكامل. فلا يمكن إدخال العقيدة الدينية في قلوب الناس كَرهاً، مثلما لا يمكن إخراجها منها بالقوة، ولذلك أمر الله بأن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة/256). فلننظر، على سبيل المثال، كيف حاول الاتّحاد السوفيتي على مدى ستة عقود إبعاد شعوبه عن الدين وتحويلهم إلى ملحدين، ولكن باءت محاولاته بالفشل، وانحلّ الاتّحاد وذهب، وبقي الناس على أديانهم. فالذي نشر الإسلام وثبّته في قلوب الناس هو معجزات الرسول ﷺ وامتداداتها من كرامات الصالحين من أتباعه وقوة منطق رسالته وإنسانيتها وجاذبيّة تعاليمه.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان (تسعينيات القرن الماضي).
فمثلما كانت معجزات النبي ﷺ دلائل لمن شهدها على صدق دعوى النبوة، فإن الكرامات هي براهين لمن لم يعِش في زمن النبي ﷺ ولَمْ يَرَ معجزاته على صدق تلك المعجزات وبالتالي على صدق الدعوة المُحَمَّدية، لأن الكرامات هي امتداد لمعجزات الرسول ﷺ. وعدم وعي بعض المسلمين اليوم بوجود الكرامات يجعلهم ينكرون بعض معجزات النبي ﷺ التي وثّقتها كتب الحديث والتاريخ، متحجّجين بعدم ورودها في القرآن وبأن تلك الكتب تجمع بين طيّاتها ما هو تاريخي وما هو مُلفَّق. إن الحجّة الأولى باطلة، لأن القرآن أشار صراحة إلى بعض معجزات الرسول ﷺ، كما قدّمنا، كما أن من الحقائق التي لا جدال فيها أن القرآن لم يوثّق كل تفاصيل حياته ﷺ. أما الحجّة الثانية، فلا شك أن كتب التاريخ والحديث تخلط بين ما هو حقّ وما هو مزيّف، ولكن المنهج العلمي يستوجب عدم رفض كل ما جاء فيها، مثلما يفرض عدم قبول كل ما تذكره. ومن المستحيل تتّبع أصل كل ما جاء في هذه الكتب عن معجزات النبي ﷺ لمعرفة ما إذا كانت تاريخاً أم لا، لأن كونها خوارق يضعها خارج نطاق منهج البحث التاريخي التقليدي المصمَّم لدراسة الحوادث الطبيعية. ولكن الحل يأتي من مصدر آخر: الكرامات. فالكرامات هي وقائع تاريخية يمكن التثبّت منها بشكل علمي، لأنها تحدث في كل زمان. ورغم أن الكرامات لا تؤكّد بشكل مباشر وبالتحديد كل معجزة للنبي مُحَمَّد ﷺ مذكورة في مصادر الحديث والتاريخ، فإنها تؤكّد بأن كل أصناف تلك المعجزات يمكن أن تكون قد حدثت. فعلى سبيل المثال، تذكر المصادر بأن النبي ﷺ شَفَى مرضى بمعجزاته، وكرامات شفاء المرضى التي تحدّث في كل زمان تصدّق تلك الروايات بشكل عام، وهكذا. ولكن لنستشهد بواقعة معيّنة.
في يوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، أراد الدراويش ذبح ثور ليكون طعاماً للاحتفال. ولكن يبدو أن الثور أحسّ بالخطر، فهرب قبل أن يمسكوه. فأخبروا إلى الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان الذي أجابهم: «إذا لا يأتي الثور ويتوسّل أن يكون طعاماً لمولد الرسول ﷺ فنحن أيضاً لا نريده». فإذا بالثور بعد قليل يعود إلى القرية ويأتي إلى مجلس الشيخ ويرقد على الأرض واضعاً رأسه أمام قدمي الشيخ، وكأنه سمع وفهم قول الشيخ واستجاب له. فقال الشيخ للدراويش بأنهم يستطيعون الآن أن يذبحوا الثور. فمثلاً تبرهن هذه الكرامة صحّة ما ورد عن النبي ﷺ من معجزات استجابة الحيوانات وتبجيلها له.
ومن الطبيعي أن نجد بأن الكرامات قد لعبت دوراً رئيساً في نشر الإسلام في مختلف بِقاع العالم، حيث جذبت إليه الناس وثبّتتهم عليه، لأنها أقنعتهم بأن رسالة النبي مُحَمَّد ﷺ التي حملها المرشدون هي حقّ، وبرهنت لهم بأن هذا الدين هو فعلاً من الله، لأن هذه القوّة الروحية غير المحدودة لا يمكن أن يكون مصدرها سوى الله القادِر على كل شيء. فمثلاً يعود دور الشيخ عبد القادِر الگيلاني الاستثنائي في نشر الإسلام، خلال حياته وإلى يومنا هذا، إلى كراماته التي لا يعدّها عدد.
وبينما تسهّل الخوارق من المعجزات والكرامات للإنسان قبول دعوة الله، فإنها لا تسلب منه إرادته فتجبره على ذلك، ولذلك أنكر الكثير من الناس رسالات الأنبياء رغم ما قاموا به من معجزات تشهد بصدق دعواهم. وقد أكّد الله عز وجل هذه الحقيقة في القرآن الكريم في عدد من الآيات الكريمة:
﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ (الحجر/14-15).
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الأنعام/٧).
﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأنعام/٣٥).
فليس هنالك دواء لمن يصر على إنكار ما تشهده حواسه إلى هذا الحد!
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة ذكر في تكية بغداد (1994/1995).
وهكذا فإن الكرامات أيضاً تعرّف الناس بالمرشدين الحقيقيين الذين يهدون إلى الله. فمن يَسِرْ على نهج القرآن العظيم وما سنّه النبي ﷺ قولاً وفعلاً يكتسب من نوره ويرث أحواله الروحية، فتظهر عليه ومنه خوارق العادات. وكلما ازداد قرب ذلك العابد من الله ازدادت كراماته التي تظهر قريباً منه وبعيداً عنه، ليلاً ونهاراً، لتُعلِم الناس عن مكانته من الله وتدعوهم لاتّباعه ليصلوا إلى ربّهم، لذلك هنالك من لا تظهر له أو عليه الكرامات إلا نادراً بينما هنالك من يعيشها كل يوم، نوماً ويقظةً. إن التزام المريد بأذكار الطريقة وتوجيهات أستاذه يوقد في قلب المريد حبّ الشيخ، وهذا الحبّ يقود بدوره إلى حب الرسول ﷺ، وحب الرسول هو وسيلة حب الله عز وجل. فالكرامات هي من ثمرات أرقى أنواع الحب الذي خلقه الله ويسّره لعباده. وكل حب حقيقي هو قوة إيجابية تظهر آثارها على المحب في مختلف أوجه حياته. ولكنّ آثار الحب الأرقى، وهو حب الله ونبيّه ﷺ ومشايخ الطريقة، تعكس مكانة المحبوب، ولذلك فإن آثار الحب الإلهي لا مثيل لها.
فلا يمكن أن تَصدق دعوى شخص ما بأنه شيخ طريقة وأن النبي ﷺ والمشايخ اختاروه ممثلاً لهم إذا لم تكن لديه كرامات تشهد بصحّة دعواه. فالشيخ يستشهد بكرامات من تقدّم من الصالحين لتحبيب الإيمان إلى قلوب الناس وتثبيته فيها، ولكن درجة تأثيره على الناس تأتي من الكرامات التي تظهر على يديه ويشهدها المريدون في حياتهم وحياة غيرهم، لأنّها تبرهن للناس بأن هذا الشيخ هو من صنف عباد الله الذين يتحدّث عنهم وأنه وارثهم، وتدلّل على ارتباطه بالنور المُحَمَّدي الشريف الذي هو منبع تلك الكرامات، فتشهد بإن اتّباعه هو سير على السُّنّة النبوية الصحيحة التي تقود إلى الله. ولما كان مشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة ورثة أحوال النبي ﷺ وعلومه الروحية، فإن في حياة كل منهم ما لا حصر له من الكرامات. والخوارق هي من أسباب اجتماع الناس من كل مكان وعِرق وثقافة وخلفية اجتماعية في الطريقة، فما من مريد سالك لم يشهد بنفسه كرامات الطريقة ويختبرها. وهنالك ما لا يُعدُّ من الكرامات التي جذبت إلى الطريقة أناساً ما كانوا يهتمّون بها، بل وحبّبتها حتى إلى من كانوا أعداءً لها ولمشايخِها ولأتباعِها.
وحين نتفكّر في وقع الكرامات على الناس نستطيع أن نفهم قول شيخنا بأن لها دوراً فريداً في تحويل إيمان الإنسان من «تقليدي» إلى «حقيقي»، حيث يستشهد بهذه الآية الكريمة: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر/99). فالإيمان التقليدي هو ما يرثه الإنسان من أهله وثقافته وينشأ عليه، فمثل هذا الإيمان يكون مدفوعاً بالعادة والتقليد والتلقين أكثر منه بالاكتساب والتعلّم الاختياري. ويبقى هذا الإيمان محدوداً في قوّته حتى حين يزيد المرء من علمه بالدين ويعزّز الأسس العقلية لإيمانه. والسبب هو أن جوانباً كثيرةً من العقيدة الدينية هي أمور غيبيّة، فلا يمكن البرهنة عليها أو تفنيدها عقلياً. فمثلاً، لا يمكن التحقّق من وجود يوم القيامة عقلياً، لأنه حدث مستقبلي لا يمكن الاستدلال عليه من حوادث الحاضر ولا البرهنة عليه بالمنطق، ومن غير الممكن للعقل التيقّن من عالم الملائكة، لأنه عالم مختلف تماماً عن عالمنا ولا يمكن الوصول إليه بحواسنا ووسائل الاستكشاف التي في متناولنا، وكذلك الأمر مع عالمي الجن والأرواح. فمهما برع المرء في تأسيس عقيدته، الموروثة غالباً والمكتسبة أحياناً، على قواعد عقلية قوية، لن تكون هذه الأسس كافية لكي تقوم عليها كل جوانب العقيدة الدينية. وهنا تأتي الكرامة لتكون للإنسان برهاناً على العقيدة الدينية، بما في ذلك ما كان غيباً، فتقطع كل شك باليقين: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر/99). فالخوارق الإلهية هي دلائل على عالم الغيب في عالم الشهادة مصدرها ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ (الأنعام/73)، فتثبّتَ الإيمانَ بغيبيّات العقيدة. فهدف الكرامات هو إيصال العابِد إلى مرتبة الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[31]
فَصُحْبَة التَزْكِية هي الطريق إلى شهود الخوارق بشكل مباشر، وهذا الشهود المباشر هو الطريق إلى الإحسان. ولكن كما ذكرنا، فإن ما يجنيه المرء من خير من صُحْبة القوم أهل الله وما يراه من كرامات يعتمد على مدى تفانيه في إعطاء هذه الصُّحْبة حقّها، وهذا الحق هو عبادة الله عز وجل والتمسك بأوامر الدين ونواهيه. ويقول شيخنا بأنه إذا رعى المريد بيعة الطريقة، التي يشبّهها بالنبتة الروحية، حقّ رعايتها، فإن الله يهبه أنواع الخوارق:
«إذا خدم المريد هذه النبتة وسقاها بالماء، أي بنور الذكر، بنور العبادة، بنور الطهارة، بنور النظافة، بنور الشريعة، بنور القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى ينوّر قلبه. فيرى كل ما يشاء بإذن الله، وينوّر الله له كل ما يريد، لأنه قال عن نفسه: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (يس/82)».[32]
وهنالك فرق كبير بين أن يسمع المرء أو يقرأ عن شيءٍ وأن يَشهَده بنفسه، لأن الخبرة المباشرة هي مصدر العلم اليقيني عن ذلك الشيء. وهذا ينطبق على الأمور بشكل عام، بما في ذلك الكرامات. فمن كان يسير على الحق، لابد أن يرى بأم عينه دلائل ذلك الحق خوارقاً للعادات تبطل فيها قوانين الطبيعة ويغلب فيها الغريب على المألوف. وكان الشيخ عبد القادِر الگيلاني يكرّر في مجالسه بأن الوصول إلى الله يجعل المرء يشهد «ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بشر».[33] فالكرامة هي من علامات وثِمار صَلاح المرء، ولكنّها أيضاً من متطلبّات نجاح المرء في إصلاح غيره.
وهنالك حقيقة أخرى مهمة جداً عن الكرامات، وهي أن بعض الخوارق هي عطايا خاصّة يجب على من يتلقّاها كتمها. فبعض خوارق القرب من الله يُرادُ منها أن تكون آيات عامة للناس، أي الغرض منها الإرشاد والدعوة إلى الله، وبعضها الآخر خاصة فيجب أن تبقى سراً أو لا تُكشَف لعموم الناس. فالنبي مُحَمَّد ﷺ قام بمعجزات كثيرة شهدها الناس، ولذلك فإنها كانت من الصنف العام من الخوارق التي وظيفتها أن تكون أدلّة على إلهية رسالته. بل إن الله أمره بأن يعلن كل مظاهر ما أنعم عليه من نعمة، بما في ذلك المعجزات العامّة: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى/١١). لكن من الطبيعي أن الرسول ﷺ عاش ما لا يحصى من التجارب الروحية الخارقة الخاصة، مثلاً خلال عباداته، فمن غير المعقول أن نفترض بأنه أعلنها كلّها. وهذا ينطبق على الكرامات أيضاً. فبعض الكرامات تحدث على مَرأى من الناس، وبعضها يُعلِنُها أصحابها لتكون دليلاً على استمرارية بركة النبي مُحَمَّد ﷺ ورسالته، أي لإرشاد الناس إلى الطريق إلى الله، بالإضافة إلى تأكيد استقامة من تُنسَب إليه هذه الكرامات. ففي حالة الإرشاد يجوز، بل وأحياناً يتوجّب، كشف الكرامات. ولكن الشخص القريب من الله يعيش أيضاً كراماتٍ خاصّة به وحده. وهذه آية كريمة تتحدّث عن الكرامات الخاصة التي تحدث للإنسان المتقي:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ (فُصِّلَت/30-32).
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في باحة تكية بغداد (12 آب 1992).
ويؤكد شيخنا بأنه لما كانت هذه الكرامات عطايا خاصة للمريد العابد فإنه يجب أن لا يفشيها لأحد، ولكنه يمكن أن يخبر بها شيخه. فإعلان الكرامات الخاصّة يمكن أن يُدخِل على قلب المريد الفخر والزهو فيؤّثر سلباً على وضعه الروحي. ولكونها عطايا خاصّة إلى الشخص تعكس وضعه الروحي، لا يجوز له أن يشارك بها آخرين، وإفشاؤها يمكن أن يوقف حدوثها لأن من شروطها الكتمان. وفي سياق التعليم بالأمثال، يقول أستاذنا بأن حرص الدرويش على إخفاء الكرامة يجب أن يكون كحرص امرَأَة مُسنّة ضعيفة مدقعة الفقر على إخفاء قطعة نقود ذهبية تمتلكها خوفاً من أن يسرقها أحد أو أن تفقدها.
وبينما تكون الكثير من كرامات مشايخ الطريقة التي يساعدون بها مريديهم والناس في مختلف الأمور علنية، فإن بعض هذه التدخّلات الخارقة تحدَث أحياناً من غير أن يشعر بها المرء. ففي سبعينيّات القرن الماضي، كان الحضور في مجلس الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان في كركوك، بما فيهم الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، يتحدّثون عمّا حدث لهم أو شهدوا من كرامات للمشايخ الكَسْنَزانِيّين. وكان أحد أحفاد شاه الكَسْنَزان يروي كرامات عن جدّه، ففكّر أخوه في سرّه بأن الكل يتحدّثون عن كرامات شاه الكَسْنَزان سواه، إذ لم يتفضّل عليه شاه الكَسْنَزان بأي شيء. ولكن حين جاء هذا الرجل في اليوم التالي إلى المجلس أخبر الحضور بما فّكر فيه وأنه رأى شاه الكَسْنَزان في تلك الليلة في المنام وذكّره بحادثة وقعت له في كركوك: «تذكّر يوم كنت تعبر الشارع وجاءت سيّارتان متقابلتان، إحداهما من مدينة الموصل والأخرى من كركوك، وكنت بين السيارّتين، فكيف وجدت نفسك فجأة على الجانب الآخر من الشارع؟»، فعلم الرجل بأن جدّه شاه الكَسْنَزان هو الذي أنقذه في ذلك الموقف من غير أن يشعر. وتبيّن هذه الكرامة بأن كثيراً من الكرامات هي مساعدات روحية من مشايخ الطريقة للناس. وعلّق شيخنا على هذه الحقيقة قائلاً بأن المريد الواعي روحياً يدرك مثل هذه التدخّلات الروحية حين تحدث، ولكن مشايخ الطريقة يساعدون المريد حتى وإن لم يكن واعياً بهذه المساعدات.[34]
ولكنه يؤكّد على ضرورة أن لا يجعل المرءُ هدفَهُ شهودَ الكرامة أو اختبارها شخصياً. فيجب أن يكون هدف الإنسان العابد هو القرب من الله، لتكون عبادته خالصة لوجه الله، وأما الكرامة فتأتي نتيجة لهذا القرب:
«إذا أتيت إلى الطريقة بهدف الحصول على الكرامات فهذا يعني بأنك لم تأتِ لله. إن الله هو الذي يعطيك الكرامات. ففي أصول طريقتنا، يجب أن تكون الكرامات هي التي تبحث عن المريد، وليس المريد هو من يبحث عن الكرامات. يجب عليك أن تبحث عن خالق الكرامات، عن الذي يمنحك الكرامات: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/13)».[35]
فمن حقّ المرء العابد أن يطلب رؤية ما يثبِّت إيمانه، مثلما طلب النبي إبراهيم ذلك: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ﴾ (البقرة/260)، ولكن هذا يختلف عن جعل رؤية الخوارق هدفاً للعبادة. فهدف العبادة هو الفناء في حب الله عز وجل.
ولما كان حصول الكرامات للإنسان وقيامه بها مرتبط بالقرب من الله، فكلّما اقترب العبد من الله بالذكر والعمل الصالح ازداد ما يوهَب من الخوارق. وروى شيخنا بأن درويشاً طلب من خليفة أن يدعو الله ليقضي له حاجة، فوعده الخليفة بأن يفعل. ثم جاء ثاني وثالث وتكررت الحالة عدة مرّات والخليفة يعد كلاً منهم بأن يدعو له. وفي الليل شاهد الخليفة في المنام المشايخ يسألونه بعتاب: «ما كانت عبادتك هذا اليوم لكي تَعِدَ الدراويش كل هذه الوعود بقضاء حاجاتهم»؟ فالله عز وجل يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر/63)، فقد وعدنا الله بالاستجابة عندما ندعوه، ودعوته تعني عبادته. ويشبّه شيخنا هذا بمن يذهب إلى السوق للتبضّع، فإنه يستطيع أن يشتري فقط بقدر ما لديه من نقود.[36] فعطايا الله للعبد تتناسب مع قدر عبادته، وإن فاقت رحمته وفضله استحقاق العبد.
وللكرامات أيضاً دور في تثقيف السالك روحياً، حيث تنكشف عن طريقها أسرارٌ روحية وعلومٌ لا يمكن الوصول إليها بالعقل. وأذكار الطريقة هي ثمرة هكذا كشوفات روحية، حيث تنكشف لمشايخ الطريقة أورادٌ لها فوائد روحية تناسب حاجات التطور الروحي للدراويش في تلك الأزمنة والأمكنة، فيجعلون هذه الأوراد أذكاراً للطريقة.
إذاً فالكرامة هي من ثمرات العبادة والقرب من الله تعالى، ولها أربع فوائد رئيسة لمن تحدث على يديه، أو تقع له، أو يشهدها. فبالإضافة إلى دورها الفريد في ترقية إيمان المرء من إيمان تقليدي إلى إيمان حقيقي، فإنها تبيّن له من يسير فعلاً على نهج الرسول ﷺ، وهي أيضاً من أسباب عون الله لعباده في مختلف الحاجات، كما أنها من مصادر الثقافة والعلوم الروحية.
وليس هدف الكرامة الكسب المادّي في الحياة الدنيا، وهنالك الكثير من الكرامات التي تؤكّد هذه الحقيقة. ذهب شاه الكَسْنَزان في صُحْبة البعض يوماً إلى قرية خاوية لكي يجلبوا حنطة للتكية. وفي الطريق سألته ابنته عن سبب حاجتهم للذهاب إلى تلك القرية لجلب الحنطة بدل أن يحصلوا على ما يحتاجون بكرامة منه، كأن يُخرِج ليراتٍ ذهبية من الأرض. فأزاح الشيخ بعصاه صخرة في الطريق فظهرت من تحتها ليرات ذهبيّة. ففرحت ابنته وأرادت أن تأخذ الذهب، ولكن الشيخ أعاد الصخرة إلى موضعها فاختفت الليرات، وقال لها: «نحن لا نريد الذهب، فلو كنا نريده لما أصبح في متناولنا هكذا. إن جلب الحنطة من خاوية أفضل لنا أن من أخذ هذه الليرات».
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية بغداد (بداية التسعينيات).
4-5 مصدر الكرامة
ذكرنا بأن مصدر كرامات المريد هي القوة الروحية لمشايخ الطريقة، وهي بدورها هبة من النبي ﷺ وامتداد لطاقته الروحية التي أعطاه اللهُ إيّاها. وطبيعة كرامات كل شيخ ومريديه تعكس درجته ومرتبته، فما يقوم به شيخ من خوارق قد لا يستطيع آخر أن يقوم به، كما يعني هذا بأن طبيعة خوارق الشيخ تتغيّر وتتنوّع مع تطوّره الروحي.
ورغم أن ظهور الكرامات للمريد يعتمد على درجة حبّه للشيخ والنبي ﷺ والله عز وجل وعلى تسليم أمره للشيخ ليقوده على الطريق المُحَمَّدي إلى الله، فمن الضروري أن لا يغترّ المريد إذا حصلت على يديه الكرامات وأن لا ينسى أن ارتباطه بسلسلة مشايخ الطريقة عن طريق البيعة هي سبب هذه البركة، فإذا انقطع عنهم انقطعت عنه هذه البركة مباشرة. فسلوك المريد هو «وسيلة» إظهار الكرامات، أما «مصدر» و «أصل» هذه الخوارق فهي روحانية شيخ الطريقة المُستَمَدّة بدورها من روحانية الرسول ﷺ الذي وهبه الله عز وجل ما لم يعطِ أحداً. ولذلك لا ينسب الدرويش الواعي روحياً ما يحدث على يده من كرامات لنفسه، وإنما يعزوها إلى شيخه. وكلما سمت درجة المريد وازدادت بركته، رأيته يزداد تواضعاً وإصراراً على وصف نفسه بأنه أصغر الدراويش وأبسطهم.
وقد أعطانا سلوك شيخنا درساً كبيراً هنا. فكثيراً ما سَرَدَ الحضور في مجلسه كرامات له شهدوها أو حدثت لهم أو لغيرهم، كظهوره لمريض في المنام وشفائه من مرضه أو غير ذلك من خوارق العادات. ولكن حين تُذكَر هذه الكرامات أمامه وتُنسَب إليه فإنه يقول «أستغفر الله»، ويعقّب قائلاً «هذه بركة الرسول ﷺ»، أو «هذه كرامات المشايخ»، أو غيرها من العبارات التي تُبعد نسبة الكرامة إليه لتنسبها إلى أساتذته. وكان الشيخ عبد الكريم يفعل الشيء نفسه حين تٌذكر أمامه كراماته، وهذا الأدب الجم هو حال كل مشايخ الطريقة. فإذا كان شيخ الطريقة يخجل من نسبة الكرامة إلى نفسه، رغم أن شهودها رأوه رأي العين يقوم بها، فكيف يجب أن يكون حال مريد الشيخ؟
فاغترار الدرويش بالكرامة ونسبتها إلى نفسه بدل شيخه يؤذيه روحياً، فإذا لم يتدارك نفسه ويصحح خطأه فإنه يفقد تلك البركة، بل ويمكن أن يفقد حتى إيمانه. وبشكل عام، إن عصيان المريد للشيخ ومخالفته لأمره يؤدي إلى سلب بركة المريد، لأن بركته هي من شيخه، والشيخ لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينهى إلا عن المنكر. وهنالك الكثير من هذه الحوادث في تاريخ التصوّف، ومنها ما وقع لخليفة اسمه «رضا» عاصر الشيخ حُسَين ومن بعده الشيخ عبد الكريم. كانت لهذا الدرويش بركة كبيرة فعندما يخرج للإرشاد في مدينة السليمانية في شمال العراق، ويدق طبلة الذكر، كانت الحيوانات البرّية من ذئاب وثعالب وغيرها تتبعه والدراويش الذين معه في كل منطقة يمرّ بها. فكان يُرى مع مئتين أو ثلاثمائة من الدراويش وعدد من تلك الحيوانات البرية التي تصاحبهم وكأنها هي الأخرى تستمع لإرشاده وتنصت له. وفي طريق عودة الخليفة رضا من رحلة الإرشاد، يتركه كل حيوان في المنطقة التي صاحَبَه فيها. ومن مظاهر البركة التي أعطاها مشايخ الطريقة لرضا أنه كان مُستَجاب الدعاء في الإرشاد، فشُفِيَ الكثير من المرضى الذين دعا لهم، وحصلت على يديه غير ذلك من الكرامات التي كانت تجلب الناس إلى الطريقة وتحببها لهم. وأصبح أكثر سكان منطقة شَهْرَزُور مريدين كَسْنَزانيين على يديه.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في مجلسه في تكية بغداد (بداية التسعينيات).
وكانت هذه البركة نتيجة حب رضا لشيخه وإخلاصه له. فحين كان يأتي لزيارته في كَرْبْچْنَه، كان يبدأ من أطرافها بالحبو على يديه وقدميه حباً واحتراماً للشيخ. ولكنّ الغرور تسلّل تدريجياً إلى قلبه ونسي أنه درويش كل ما لديه من بركة هي من شيخه. وأخذه الغرور بنفسه حتى أنه بدأ يكتب الأدعية للناس، رغم أن الشيخ لم يجزه بكتابة الأدعية، إذ أن للطريقة الكَسْنَزانيّة أذكار خاصة فيها كل ما يحتاجه الإنسان من البركة، كما سنرى في الفصل التاسع عشر. كما سوّلت له نفسه اختلاس بعض تبرّعات الناس للطريقة، لأنه أخذ يعتقد بأن البركة التي كانت تظهر عليه هي خاصّة به ولا علاقة لها بشيخ الطريقة وأنه هو سبب هذه العطايا، فبرّر هذا الطمع لنفسه.
وفي ظهر أحد الأيام شاهد الشيخ عبد الكريم شيخه السلطان حُسَين في المنام يخبره بأن الخليفة رضا كان في طريقه لزيارة كَرْبْچْنَه، وأن لديه كذا مبلغ من مال الطريقة ولكنه قد اختلس منه كذا مقدار. وكشف له بأن النقود التي جلبها للتكية كانت في منديل أحمر وأخبره بعدد الأوراق المالية من كل فئة، وأمره بأن يعيد إليه النقود وأن يطرده من الطريقة. فلما استيقظ الشيخ عبد الكريم سأل إن كان رضا قد جاء، فقيل له بأنه لم يأتِ. ولم تكن في ذلك الزمان في تلك المناطق والقرى الجبلية النائية وسائل اتّصال تمكّن الناس من معرفة ما إذا كان شخص من منطقة أخرى قادماً من غير موعد. بعد ذلك ذهب الشيخ عبد الكريم إلى بستان شاه الكَسْنَزان وصلّى العصر هنالك، وسأل بعد الصلاة إن كان رضا قد وصل، فكان الجواب مرة أخرى بالنفي. ولكن بعد قليل بدأت تُسمَع من فوق الجبل المطل على كَرْبْچْنَه أصوات طبلة لزوّار من الدراويش، وبعدها وصل الخبر بأن ضارب الطبلة كان الخليفة رضا الذي كان الشيخ ينتظر وصوله. فلمّا وصل وسلّم على الشيخ قال له بأنه قد جلب هديّة للتكية، ولكن الشيخ ردّها وقال له بأن يحتفظ بها. وكشف له الشيخ مقدار المبلغ الذي جلبه والمبلغ الذي سرقه من هدايا الناس للتكية، وأخبره بأن علامة صدق ما يقول بأنه قد وضع النقود في منديل أحمر وكشف له عدد كل فئة نقدية منها. وطرد الشيخ عبد الكريم هذا الدرويش، فكانت هذه آخر زيارة له للشيخ. وسُلِبَ إيمان رضا وسُحِبَت منه كل البركة التي كانت عنده. وبعد أن كانت له مكانة كبيرة بين الناس، انتهى به الحال إلى الموت في الشارع، ولا يُعرَف اليوم حتى قبره. وحتى أرملته نسته كما نساه الناس وتزوجت من بعده، ولم يبقَ من أخباره إلا تفاصيل انحرافه عن الطريق ونهايته المؤسفة.[37]
ولنستشهد بمثال آخر من عهد الشيخ حُسَين. كان هنالك رئيس عرفاء اسمه «حسن» يعمل آمراً لمخفر الشرطة على جبل سه گرمه، حيث كانت في ذلك الوقت مخافر للشرطة على طريق القوافل. في صباح أحد الأيام كان حسن يصيد على الجبل من جانب كَرْبْچْنَه حين شاهد ثعلباً يصعد الجبل قادماً من اتجاه القرية. وحين اقترب الثعلب لاحظ بأن في فمه قطعة كبيرة من خلية عسل. ثم ترك الثعلب خلية العسل في مكان هنالك وعاد، فنزل حسن إلى مكان العسل، فرآه نظيفاً وبدا له شهياً، فأكل منه وأخذ الباقي معه وعاد إلى المخفر.
بعد فترة قصيرة طرأ على رئيس العرفاء حالٌ خاص جعله لا يعي ما يفعل، فترك سلاحه في المخفر وغادره وبدأ بنزول الجبل باتجاه كَرْبْچْنَه. حين سأله رفاقه في المخفر عمّا به، لم يرد عليهم. وذهب حسن لزيارة السلطان حُسَين، ولما سأله الشيخ عن سبب مجيئه أجابه بأنه لا يدري. ثم أعطاه الشيخ البيعة وأمره بدخول الخلوة لمدة أربعين يوماً، وبعد أن أكملها، أمره الشيخ بأن يختلي أربعين يوماً أخرى. فلما تأخّر حسن عن زيارة عائلته في كركوك، أخذت زوجته بالسؤال عنه، فجاءها الخبر من المخفر بأن زوجها ذهب إلى كَرْبْچْنَه ولم يعد.
أخذت الزوجة أولادها وذهبت إلى كَرْبْچْنَه، فوجدوا حسن في خلوته الثانية. وحاولت أن تقنعه بالعودة إلى عمله، خوفاً من أن يُسجَن ويُطرَد من الشرطة ويفقد مصدر رزقه، ولكنه رفض العودة وقال بإذن الله ستبقى تستلم راتبه وأنه لن يُقطَع. وذهبت الزوجة إلى سنگاو لاستلام راتبي زوجها فصُرِفَا بالكامل، وقال لها المسؤولون بأن لا تقلق على الراتب وعسى أن يعود حسن، ثم عادت إلى كركوك. وذهبت الزوجة مرة أخرى إلى سنگاو لاستلام راتب الشهر التالي، ثم زارت كَرْبْچْنَه لرؤية زوجها، فوجدته وقد انتهى من خلوته الثانية. فجعله الشيخ خليفة وأمره بالعودة مع عائلته وإلى عمله في الشرطة. بعد فترة من الزمن، ترك حسن عمله في الشرطة وبقي يرشد كخليفة.
ونتيجة مجاهداته وسلوكه، وصل حسن مراتبَ روحية وأصبحت له بركة واشتهر أمره. فكان معروفاً عنه أنه إذا طلب منه الناس أن يأتي لهم بشيء ما، مثلاً نوعاً معيناً من الطعام، كان يضع يده على الحائط ويقول «گُل حُسَين»، فيظهر الطعام بين يديه. وكلمة «گُل» الكردية تعني «وردة»، أي كان يستخدم هذا النداء للاستمداد من الشيخ حُسَين. ولكن بعد فترة انحرف حسن عن الطريق المستقيم، فسُلِبَت منه بركته، ونُسيَ شأنه، ولم يعد أحد يذكره أو يعلم ما حدث له.[38]
ويضرب شيخنا مثلاً في وصف حالة الذين تجري الكرامات على أيديهم أو يكونوا لها شهوداً ولكنّهم مع ذلك يضلّون عن الطريق. حيث يقول بأن هنالك من الناس في الطريقة من يغمره المشايخ بالكرامات ولكن مع ذلك لا يلتصق به شيء منها، مثل حجر الزِناد الذي لا يمتصّ شيئاً من الماء حين تغمره فيه.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في بيت استراحة الدراويش في كركوك (30 تشرين الأول 1990).
إن الخطأ الرئيس الذي وقع فيه هؤلاء هو أنهم اغترّوا بما ظهر على أيديهم من الكرامات فجهلوا أنفسهم من بعد علم: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر/49). فمن بعد إدراكهم بأن كل بركّة حلّت بهم لم تكن من أنفسهم، وأنها أحوالٌ ومراتب أسبغها عليهم مشايخ الطريقة، استبدل الغرور علمهم هذا بجهل وضلالة. فحين فقدوا معرفتهم بأنفسهم أضاعوا الطريق ولم يعودوا سالكين. فالدرويش هو «العارف بنفسه»، وهذه المعرفة بالنفس شرط أساسي لكي يصبح المرء «عارفاً بالله»: «مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه». فلولا أن زلَّهم الغرور، لحافظ كل منهم على معرفته بنفسه، فمعرفته بشيخه، فمعرفته بربّه.
إن نتائج الخطأ الذي يرتكبه شخصٌ عاش الكثير من الكرامات ورأى بأم عينه ما يكلّ عن وصفه اللسان ويعجز عن فهمه العقل هي أسوأ من نتائج نفس الخطأ إذا ارتكبه من لم ينعم عليه المشايخ بمثل هذه الكشوفات الروحية. كما أن حالات سحب البركة التي ذكرناها والتي انتهت بضياع المريدين تشترك بشيء مهم، وهو أن الدرويش المخطئ أصرَّ على خطئه ولم يتراجع عنه. فلم يكن سبب ضلالته هفوة عابرة أو خطأ أقرَّ به حالما أدركه، وإنّما كِبْرٌ وإصرارٌ على الخطأ أوصلاه الهاوية.
ويستوجب موضع الحديث هنا التعريف بمفهوم مهم في التصوّف يُعرَف اصطلاحاً باسم «الحال». يشير «الحال» إلى حالات روحية متنوّعة تتجاوز عالم الظاهر، يسبغها الله على بعض عباده، وذلك عن طريق الرسول ﷺ وصولاً إلى شيخ الطريقة الحاضر الذي يهبها لمن يشاء من المريدين. فليس الحال اكتساباً من قبل الدرويش، ولكن هبة من الشيخ. والحال قوّة روحية تأخذ أشكالاً مختلفة، وقد يكون الحال وقتياً، كأن يكون حادثة أو مشاعر أو تجربةً ما تمرّ بالدرويش، كما يمكن أن يكون أمراً مستمراً. فمن الأحوال ما هو قدرات روحية معيّنة يمنحها الشيخ للمريد وفقاً لاحتياجات الطريقة، فيكون لأصحاب الأحوال وظائف معيّنة في الطريقة، وتظهر آثار الأحوال أحياناً على شكل كرامات تحدث على يد أصحابها. فمثل هذه الأحوال هي بمثابة مراتب من الشيخ للمريدين. ومثلما يهب الشيخ مريداً ما حالاً معيّناً، فقد يغيّره إلى حال آخر، كما قد يسلب الحال من المريد إذا لم يعد أهلاً لتلك المسؤولية، كما شاهدنا.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع مجموعة من المريدين في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف 12 النور 1493 محمّدي، الموافق 12 ربيع الأول 1439 هجري، تكية عمّان (30 تشرين الثاني 2017).
5-5 تنوّع الكرامات وأسباب حصولها
ذكر الله في القرآن أنواعاً مختلفة من معجزات الأنبياء مبيّناً بأنها تأخذ أشكالاً لا حصر لها، وكذلك هو حال الكرامات لأنها امتداد للمعجزات. وحتى النوع الواحد من هذه الخوارق الإلهية يظهر بعدد لا حصر له من الأشكال، لأن الله عز وجل قادر على أن يخرق كل قانون وعادة. فلننظر مثلاً كيف غيّر سبحانه وتعالى طبيعة النار فجعلها باردة على نبيّه إبراهيم حين ألقاه قومه فيها: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء/69). فأصل خرق العادة هو التدخّل الإلهي، ولما كان هذا التدخّل يمكن أن يحدث عن طريق أي سبب من الأسباب، فليس هنالك حد للأشكال التي يمكن أن تأخذها المعجزات والكرامات.
فقد يُشفي الشيخ مرضاً مستعصياً بأن يصف للمريض أكل شيء من العسل أو شرب ماء قد باركه. ولكن لو أكل المريض ما شاء من العسل أو شرب ما طاب له من ماء لما شفي من مرضه، لأنه ليس في طبيعة العسل والماء ما يشفي تلك العلّة المستعصية. فالذي جعل في ذلك العسل أو الماء سبباً لخرق العادة هو القوة الروحية للشيخ. فهذه البركة التي أغدقها الله على النبي ﷺ ومشايخ الطريقة يمكن أن تجعل أي شيءٍ سبباً لخرق أيّة عادة، فليس لأنواع المعجزات والكرامات حد.
أما سبب حدوث كرامة ما بشكلٍ معيّن وأخرى بشكلٍ آخر، فهو من الأسرار التي لا يعلمها إلا أهلها، ولكن من الجلي أن حدوث فعل خارق بشكل معيّن دون غيره ليس أمراً عشوائياً. فمن يدرس المعجزات والكرامات لا يمكن إلا أن يستنتج وجود قوانين خفيّة تحدّد الكيفية التي تحدث بها كل واحدة من هذه الخوارق، ولكنها ليست من قوانين عالم الطبيعة.
ولنقارن، مثلاً، ثلاثاً من كرامات الشفاء الخارق لشيخنا يختلف في كلٍ منها سبب شفاء المريض. والكرامة الأولى حدثت للمريد أحمد شريف باشا من الهند في عام 2005 أو 2006، وهذه تفاصيلها كما يقصّها بلسانه:
«أصابني فالج قبل حوالي ستة عشر أو سبعة عشر عاماً. وفي حينه عالجني طبيب إنكليزي وشفيت من المرض بنسبة ثمانين بالمئة، ولكن بقي عندي شلل جزئي في الوجه، حيث بقي فمي مستديراً بشكل دائم إلى جهة اليمين. وهذا منعني من الكلام بشكل طبيعي، فمثلاً لم أكن أستطيع لفظ حرف الفاء. بعد أخذي للطريقة بفترة ذهبت إلى المملكة العربية السعودية للعمل هناك. بعد أن صلّيت الفجر في أحد الأيام وقفت أمام صورة حضرة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان لأكلّمه مباشرة، وخاطبته قائِلاً: «في الماضي لم أكن أُصلّي وكنت ألغو كثيراً وأتكلّم السوء، ومع ذلك لم تكن لديَّ قبل إصابتي بالفالج أية مشكلة في فمي وكنت أتكلم بطلاقة. ولكني الآن درويش ملتزم بصلاتي وأذكاري ولكني لا أستطيع اللفظ بشكل صحيح، فلماذا لا تساعدني؟». وكنت أتحدّث بشيءٍ من الغضب.
حين نمت في تلك الليلة شاهدت رؤيا غريبة. رأيت نفسي في مستشفى غير مألوف لي، وكان هنالك طبيبٌ قد أتى من الصين يلبس على وجهه قناع العمليّات، وقال لي بأنه سيعالج الشلل في وجهي. ثم استلقيت على السرير وبدأ الطبيب بعلاجي بالإبر الصينية، حيث استغرق العلاج حوالي نصف ساعة غرز خلالها الإبر في مختلف أنحاء جسمي. قال لي الطبيب بعدها: «لقد اكتمل علاجك، وأنت الآن مُشافى بنسبة ثمانية وتسعين بالمئة». حينئذ سألته: «من حضرتك؟»، فكشف عن وجهه لأجد بأنه حضرة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان.
فنهضت فزعاً من النوم، وكانت الساعة الثالثة صباحاً، ثم توضّأت وصلّيت صلاة الفجر. ووقفت أمام المرآة فشاهدت بأن الشلل في وجهي قد اختفى تماماً وعاد فمي إلى حالته الطبيعية. أما الاثنتين في المئة التي أشار إليها حضرة الشيخ في المنام، فبقيت لدي مشكلة بسيطة جداً أحياناً في بلع بعض الطعام حين لا أكون منتبهاً حين الأكل، وكل ما أحتاجه في مثل هذه الحالات هو شرب بعض الماء».[39]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أمام جدارية لصورة شهر النور في طبعة التقويم مُحَمَّدي، تكية بغداد (23 أيلول 1992).
وفي كرامة أخرى في عام 2012، جاءت امرأة إلى خليفة شيخنا في الهند، عماد عبد الصمد، واشتكت له باكية بأن لديها علّة في أنفها، حيث كان مسدوداً بعظم من الولادة وكانت حالتها قد تفاقمت، وقال لها الأطباء بأنها تحتاج إلى عملية. لكن العملية تكلف مبلغاً كبيراً وهي وزوجها العاطل عن العمل لا يكادون يحصلون على قوتهم اليومي. فأعطاها الخليفة بيعة الطريقة وطلب منها أن تبدأ في قراءة أوراد الطريقة. بعد أسبوع جاءت الدرويشة لزيارة الخليفة وهي فرحة، وقالت له بأنها رأت في نومها الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد يقطع أنفها العليل ويستبدله بآخر، وكان يحدّثها بلغتها، وهي الأوردو. فلما أفاقت من النوم وجدت قطرات من الدم ومخاطاً على أنفها وعلى الوسادة، وقد ذهبت علّتها. وأخبرته بأنها زارت طبيبها الذي لم يصدّق روايتها، ولكنّه لم يستطع أيضاً أن يفسّر ما حدث، لأنه كان قد أخذ صورة بالأشعة السينية لأنفها العليل قبل بضعة أيام فقط وهو الآن سليم. وسألها الخليفة إن كانت قد رأت صورة شيخنا، فأجابت بالنفي، فأخرج لها صورته فلما رأتها قفزت من مكانها وأخذت بتقبيلها وأكّدت بأنه هو الذي شفاها في المنام.[40]
أما المثال الثالث فكرامة حدثت للشاعر الدكتور عبد السلام الحديثي. في أحد أيام عام 1991 ضربت عاصفة ترابيّة شديدة مدينة بغداد، فأخبر أحدهم شيخنا بأن هذا سيؤثر سلباً على صحة الخليفة عبد السلام لأنه يعاني من الربو. فلما زار شيخنا في تلك الليلة، سأله عن حالة الربو التي يعاني منها وما فعل الأطباء بشأنها، فأجاب بأنه أًصيب بهذا الربو الشديد حين كان يدرس في إيطاليا في عام 1983، ورغم مراجعته للكثير من الأطباء هنالك وفي العراق واستخدامه لمختلف الوصفات فإن حالته لم تتحسّن. فأخذ يسأله عن العلاج بالعسل، فأجابه الخليفة عبد السلام بأنه قد جرّبه، ثم أضاف بأنه لا يعتقد بأن أي شيء يمكن أن يشفيه سوى همّة شيخنا، أي بركته، فأجاب شيخنا مباشرة «همّة الرسول ﷺ». كان الدكتور عبد السلام يضطر إلى أخذ دواء الربو «فينتولين» كل يوم قبل أن ينام في الليل وبعد أن يستيقظ في الصباح. ولكنه حين ذهب للنوم في تلك الليلة لم يشعر بالحاجة له كما هو الحال، ولكنّه مع ذلك قرّر أن يأخذه تحسباً. وحين استيقظ صباحاً لاحظ مرة أخرى بأنه لا يحتاجه، فقرّر هذه المرّة عدم أخذه، ولم تصبه نوبة ربو بعد ذلك إطلاقاً. أي شفي من مرضه منذ أن طلب الشفاء ببركة حضرة الشيخ.
هنالك اختلافات واضحة بين الطريقة التي حدث فيها الشفاء في الحالات الثلاث. فقد كان العلاج في الكرامتين الأوليتين عن طريق رؤيا في المنام بينما كان في الثالثة يقظةً. وكان العلاج في الكرامة الأولى بالإبر الصينية، وفي الثانية بعملية، وفي الثالثة بدعاء. وفي الكرامة الأولى بقي 2% من المرض، بينما كان الشفاء كاملاً في الحالتين الأُخريين. وحدث العلاج الخارق في الكرامتين الأوليتين بينما المريضان بعيدان عن شيخنا آلاف الكيلومترات، بينما كان العلاج في الكرامة الأخيرة في حضوره. ولو قارنّا هذه الكرامات بغيرها لوجدنا بينها اختلافات أخرى.
والتأمّل في هذه الاختلافات يبيّن بأن لعالم الكرامات قوانينه الخاصة، وليس بعالمٍ تحدث فيه الأمور بشكل عشوائي. فهنالك أسباب روحية لحدوث كرامة ما بشكل معيّن وأخرى بشكل مختلف، وهذه الأسباب من أسرار الكرامات.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يتفقد جدارية لصورة شهر النور في طبعة التقويم مُحَمَّدي، تكية بغداد (23 أيلول 1992).
كما تتمايز الكرامات المختلفة من حيث تعقيدها وعدد تفاصيلها. فترى بعضها يتميّز بدرجة عالية من التعقيد فتتكوّن من عددٍ من الحوادث المترابطة التي تشمل عدداً من الناس المختلفين وتقع على مدى فترة طويلة وتشمل أماكن عديدة بعيدة عن بعضها، حتى تكون الكرامة الواحدة سلسلة من الكرامات المترابطة. ويوماً ذكرت هذه الملاحظة لأستاذنا وعقّبتُ معلّقاً بأن مثل هكذا كرامة تبدو وكأنها فلم سينمائي، فضرب بيده الشريفة على فخذه وقال مؤكداً بأنها فعلاً كالفلم. فهي كفلم مخرجه الخالق عز وجل. إذ تبيّن مثل هذه الكرامات من غير شك بأن يد الله هي التي صنعتها، لأنها تعكس قدرة وسيطرة مذهلة على الناس والأمكنة والأزمنة. وسيمر بنا في الكتاب عدد من مثل هذه الكرامات.
6-5 الدرباشة
هنالك نوع خاص من الكرامات الجهرية في الطريقة الكَسْنَزانيّة تُعرَف باسم «الدرباشة»، الواضح اشتقاقه من كلمة «درويش» الفارسية. والدرباشة فعاليات خارقة معيّنة يجيز الشيخ لبعض الدراويش القيام بها لكي يطمأن الناس بأن للطريقة قوة روحية كبيرة فيسهل عليهم الإيمان بها، فلما يسلك المرء منهج التصوّف يمرّ بتجارب روحية خاصّة مباشرة. ففي البدء، يكون ما يراه المرء من الدرباشة ويسمع أو يقرأ من أخبار الكرامات هو كل ما في متناوله من خوارق الطريقة، فإذا التزم بسلوك الطريقة يبدأ في معاينة واختبار كرامات وتجارب روحية خاصّة به، يقظةً ومناماً. فالدرباشة هي وسيلة لجذب الشخص إلى منهج الرسول ﷺ وليست هدفاً بحد ذاتها. ومن المهم التأكيد على أن ممارسة الدرباشة ليست من متطلّبات سلوك نهج الطريقة، فالغالبية العظمى من الدراويش لا يمارسون الدرباشة، ولكنّها وسيلة إرشاد مُتاحة لمن يرغب فيها.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في تكية عمان (17 كانون الأول 2017).
وتتضمن الدرباشة عدداً من الفعاليّات المختلفة:
- إدخال أدوات حادة كالأسياخ والسيوف في مناطق مختلفة من الجسم تشمل الخدين، اللسان، قاعدة الفم، الذراع، عضلات الصدر، والبطن بمناطقها المختلفة. يستخدم المريدون في هذه الفعاليات أدواتٍ معدنية لها أقطار وأسماك مختلفة. ولكن في حالة استخدام أجزاء الجسم الرقيقة، مثل الخدين وقاعدة الفم، يستخدم بعض المريدين عصياً خشبية مدببة بدلاً من الأدوات المعدنية، إذ يمكن إدخال العصا الخشبية في أجزاء الجسم الرقيقة تلك من غير أن تنكسر. وسبب استخدام العصي الخشبية بدلاً من الأدوات المعدنية هو أن الأولى يفترض أن تكون أكثر إيلاماً وخطورة، لو خضعت لقوانين الطبيعة، لأن تمزّيقها لأنسجة الجسم أكبر مما تسبّبه نظيراتها المعدنية، إذ غالباً ما تكون العصي الخشبية ذات سطوحٍ خشنة نسبياً وأقطارٍ غير منتظمة.
- إدخال خناجر في جوانب مختلفة من عظام الجمجمة وكذلك في عظم الترقوة، باستخدام مطارق خشبية. وقد يطرق المريد الخنجر بنفسه أو يطرقه مريد آخر في رأسه. وأحياناً يغرس المريد الخنجر إلى عمق يتعذر سحبه باليد، حيث ينحصر بقوة في عظام الجمجمة. وفي هذه الحالات قد تؤدي محاولة سحب الخنجر من قبل شخص آخر إلى انفصال قبضة الخنجر وبقاء النصل في الرأس. فإذا حدث ذلك يقوم المريد عادة بترك الخنجر في رأسه لبضع دقائق يبدأ الخنجر بعدها بالخروج تدريجياً من الرأس فيصبح ممكناً عندئذ سحبه باليد، كما قد يسقط تلقائياً إذا تُرِك لحاله.
- مضغ وابتلاع أمواس حلاقة غير مستعملة، وقطع من الزجاج المكسور من أقداح زجاجية أو شمعات إنارة متفلورة (فلورسنت). وفي حالة استعمال زجاج شمعات الإنارة هنالك خطر إضافي هو سُمِّية مادة الزئبق في داخل الشمعات.
إن الخوارق التي تتضمَّنها هذه الفعاليات هي عدم إصابة المريد بأي أذى، بالرغم من أن الجروح الرئيسة التي تسبّبها هذه الفعاليات وطبيعة أجزاء الجسم المُستَهدَفة تجعلها غاية في الخطورة. فالمريد لا يشعر بألم، وأحياناً يشعر بأن دخول الأداة الحادة في جسمه كشعوره بوخز إبرة، أو يحسّ بألم بسيط. كما لا يُصاب المريد بنزيف، رغم أن مثل هذه الجروح تُسبِّب نزيفاً شديداً في الظروف الطبيعية. ولا تلتهب هذه الجروح، رغم أن أدوات الدرباشة غير مُعقَّمة، بل وأحياناً يلوّثها المريد عن عمد لتأكيد خارقيّة الفعالية.
وليست المناعة ضد الألم والنزيف والالتهاب هي كل ما تتضمّنه فعاليات الدرباشة هذه من خوارق، إذ إن عملية شفاء الجروح هي الأخرى فيها خرق مذهل لقوانين الطبيعة. حيث تلتئم جميع الجروح بشكل شبه فوري بمجرد إخراج الآلة الحادة من الجسم، تاركةً أحياناً ندبة صغيرة وأحياناً لا تترك أي أثر. وهنالك أكثر من وجه خارق في هذا النوع من الشفاء. فسرعة شفاء الجرح يخالف ما يتوقعه الطب وليس له تفسير طبيعي على الإطلاق. كما أن شفاء الجرح، بغض النظر عن سرعة ذلك، هو أمر خارق بحد ذاته، لأن الكثير من جروح الدرباشة ليست من التي يمكن أن تلتئم تلقائياً من غير تدخّل طبّي، في الحالات الطبيعية، بل ويمكن أن يؤدّي تركها من دون علاج إلى مضاعفات خطيرة وحتى الموت. ومن المهم هنا التأكيد على أن التئام الجروح يصاحبه شفاء كل عطب في الجسم يمكن أن يكون قد أحدثه دخول الآلة الجارحة. وأخيراً، إن من مظاهر الخرق في الدرباشة هو قدرة الدرويش على تكرارها بقدر ما يريد، أي أن نسبة نجاح الدرباشة كفعالية خارقة هي 100%. وهذا أيضاً يعني بأن من الدراويش من قد مارس فعالية ما مئات المرات من دون تأثير سلبي على أعضاء الجسم التي تشملها الفعالية.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في لندن (منتصف 2000).
كما تتضمن الدرباشة عدداً آخر من الفعاليات الخارقة التي يمارسها المريدون:
- تعريض أجزاء الجسم للنار من غير أن تحترق. وتستخدم عادة قطعة من القماش الملفوفة على عصا خشبية أو معدنية، وتُغمر في مادة سريعة الاشتعال كالنفط، ثم توقد فيها النار، فيعرّض المريد وجهه ويديه وأقدامه للهب النار. وتُعرَض المناعة ضد النار أيضاً عن طريق حمل المريد بيديه لصفائح معدنية ساخنة إلى درجة الاحمرار، كما يمكن أن يضعها بين أسنانه. وأحياناً يقوم المريد بحمل قطعٍ من الفحم المسخّن حتى الاحمرار بيد عارية ووضعها في فمه. وفي هذه الحالة هنالك مناعة ضد نتائج استنشاق الغاز أيضاً.
- يُعرِّض المريد يديه للدغات الأفاعي والعقارب السامّة. كما يُعرِّض لسانه للدغات الأفاعي بشكل مقصود. وأحياناً يقوم المريد بأكل رأس الأفعى أو التهام عقرب أو أكثر. والوجه الخارق هنا هو المناعة ضد السم. ومن كرامات الصحابة الشبيهة هي أن خالد بن الوليد حُذِّرَ يوماً من أن تسقيه الأعاجم السُمّ، فطلب أن يُجلَبَ إليه، فقال «بسم الله» وشربه، فلم يضرّه شيئاً.[41]
- يُعرِّض المريد جسمه إلى تيار كهربائي متناوب خطير لعدة دقائق.
هذه هي فعاليات الدرباشة الأكثر انتشاراً بين المريدين، إلا أن هنالك فعاليات أخرى تُمارَس من قبل بعض المريدين أحياناً. فقد يضرب المريد رأسه بحجر ضخم أو يضرب رأسه على الحائط أو على الأرض بقوة من غير أن يُصاب بأذى، أو يُمرِّر نصل خنجر حاد على لسانه عدداً من المرات محدثاً جروحاً عميقة تلتئم بشكل فوري، أو يدخل سيخاً في الرقبة وغيرها من الفعاليات.
وخلافاً لفعاليّاتٍ شبيهة يقوم بها أفراد من أتباع بعض الأديان والفلسفات الروحية التي ليست لها علاقة بالطريقة، ليس هنالك أي تدريب خاص يقوم به المريد لاكتساب هذه القدرات. إذ يستطيع المريد القيام بفعالية الدرباشة حالما يأذن له شيخ الطريقة بذلك.
إن لممارسة الدرباشة هدف واحد فقط وهو الإرشاد، ولذلك يؤكّد مشايخ الطريقة على عدم استخدام هذه الفعاليات لأي غرض آخر.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر، تكية بغداد (منتصف تسعينيات القرن الماضي).
قبل حوالي 30 عاماً، قمتُ شخصياً في مناسبتين مختلفتين، أثناء فصل قراءة المدائح الذي يلي حلقة الذكر وفي حضور شيخنا، بممارسة فعالية إدخال خنجرٍ في قمة الرأس وسيخٍ في عضلات الصدر، وقام بإدخال الخنجر والسيخ أحد الخلفاء المخوّلين بممارسة الدرباشة. كانت فعالية الخنجر هي الأولى زمنياً، وكنت قبل الفعالية في حالة ترقّب وشعور ببعض القلق، رغم أنني كنت قد شاهدت الكثير من الدراويش يمارسون الدرباشة بنجاح. وكما هو المعتاد عند ممارسة هذه الفعالية، طلب مني الخليفة أن اجلس على الأرض مستندا على إحدى ركبتي وأن أضع مرفق يدي على الركبة وكفها تحت الحنك لإسناد الرأس عند ضرب المطرقة على الخنجر. ولما كنت أصلع الرأس، فإن ملامسة أية آلة حادة لجلد الرأس يكون مؤلماً. ولكن حين بدأ الخليفة بطرق الخنجر في قمة الرأس لم أشعر بأي ألم رغم أنني كنت أشعر بكل ضربة للمطرقة، لأن يدي كانت تسند حنكي. فمن مظاهر غرابة التجربة أنني كنت أشعر بتحرك رأسي تحت تأثير ضربات المطرقة عليه، التي أظن أن عددها كان أربع، وحاجتي لإسناده بكفّي ولكني لم أشعر بألم. وفي حينها وصفت هذا الشعور الغريب بأنه مشابه لمسك قطعة حجر في اليد يشعر المرء بأية ضربة عليها لأنها في يده ولكن لكونها حجراً وليست جزءاً من الجسم فإنها لا تسبب أي شعور بالألم. وحين حاول الخليفة أن يسحب الخنجر، لم يستطع، فعاود المحاولة بعد حوالي الدقيقتين فاستطاع سحبه هذه المرة. وكان رأس الخنجر قد التوى قليلا نتيجة طرقه على عظم الجمجمة. وخرج القليل من الدم الجرح حيث سال خط الدم إلى جانب الرأس ولم يتجاوزه. وخلال دقائق كان الجرح قد التأم واختفى.
وكانت تجربتي الثانية مع الدرباشة شبيهة من ناحية الشعور باختراق السيخ لعضلات الصدر من غير الإحساس بألم وكأن ذلك الجزء من الجسم ليس عرضة للألم.
5-7 التصريف الروحي
لا تقع الكرامات فقط لمن يصاحب شخصاً قريباً من الله، لأنها أيضاً من وسائل تفضّل الله على من يشاء من عباده، والله يتفضّل على من يشاء من عباده، سواء استحقَّ العبد ذلك الفضل أم لم يستحقّه. فقد يرى شخصٌ مريضٌ الرسولَ ﷺ في المنام فيشفيه من مرضه، أو قد يزور ذو حاجة مكاناً مباركاً، كبيت الله الحرام أو ضريح أحد الأولياء، فتقع له فيه حادثة خارقة يقضي بها الله حاجته. ولكن مثل هذه الخوارق التفضّلية قليلة الحدوث، حيث تحدث لعدد صغير جداً من الناس، ويندر أن تقع لشخص أكثر من مرة في حياته. ومثل هذه الكرامات لا تشير بالضرورة إلى استحقاق من تحدث له، مثلما أن معظم ما يحصل عليه الإنسان من نِعَم هي برحمة من الله وليست استحقاقاً: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم/35).
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح، مسجد تكية بغداد، (حوالي 1992).
كما يمكن للعابد أن يحصل على كرامات وبركة نتيجة عباداته وتقواه، وهذا شيء يمكن أن يحصل للفرد حتى إذا لم يكن قد أخذ البيعة. ولكن هنالك مراتب روحية تجعل للعبد تصريفاً في عالم الأرواح، وهذه لا يمكن الوصول إليها إلا بسلوك منهج الطريقة. فمراتب الولاية مثل «الغَوْث»، و «القُطْب»، و «الوَتَد»، و «البَدَل» هي وظائف مخصصّة من قبل مشايخ الطريقة لعدد معيّن من المريدين السالكين، ليكون هؤلاء الأولياء عوناً للشيخ وتحت تصرّفه في إدارة أمور الطريقة الروحيّة. ويخاطب شيخنا الدرويش قائلاً: «باستثناء النبوّة، من الممكن لك أن تصل إلى أية مرتبة. ما عدا النبوّة، يمكن للمريد أن يصل حتى إلى درجة الغوثيّة»،[42] التي هي أعلى درجات التصريف الروحي. فلا يمكن الوصول إلى أي من درجات الولاية إلا بأخذ البيعة على يد شيخ حي يمثّل سلسلة مستمرة من المشايخ وصولاً إلى النبي ﷺ. وفيما يلي حادثة توضّح هذا الأمر.
كان أحد أقرباء شيخنا كثير العبادة، حتى أنه اختلى مرّة لمدة ستة أشهر في غرفته، وأوصد بابها ولفَّ نفسه بعباءة فلم يكن يرى بشراً أو حتى ضوءاً، وبقي مستمراً على العبادة. وكان أهله يتركون له وراء باب الغرفة الماء وقليلاً من الشوربة طعاماً له. وجعلته عبادته يسمع يوماً صوتاً وقت الفجر ينادي فوق بيته بأنه قد أصبح قُطْباً، وفي نهاية النداء أمره الصوت بأن يذهب إلى الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه. كان الصوت عالياً وواضحاً حتى بدا لهذا العابد بأن جميع أهل چَمْچَمال، حيث يسكن، سمعوا النداء. وفرح الرجل بما سمع، ولكن أبت نفسه أن تسمح له بأن يزور الشيخ عبد الكريم ويأخذ البيعة منه.
بعد ذلك قرَّر الرجل الذهاب إلى بغداد لزيارة مقام الشيخ عبد القادِر الگيلاني والبقاء هنالك. ولكن القائمين على خدمة الحضرة القادِريّة لم يعطوه مكاناً مريحاً لإقامته وعبادته. فطلب في قلبه العون من الشيخ عبد القادِر. فزاره الشيخ عبد القادِر في المنام ليلاً، وأمره أن يذهب إلى شخص اسمه «فتّاح»، يبدو أنه كان المسؤول الإداري عن الحضرة، ويقول له بأن الشيخ عبد القادِر يهديه السلام، ويأمره بأن يعطيه مكاناً مريحاً، وأن دليل صدق رؤياه هي أن فتّاح كان يأخذ لأهله كل يوم من أفضل قطع اللحم المُهدى إلى المقام لإطعام الزوّار.
ذهب الرجل في الصباح إلى فتّاح ونقل له ما أمره به الشيخ عبد القادِر، فلما سمع الكلام سقط على الأرض مغشيّاً عليه. وبعد أن ساعده الحضور على استرداد وعيه، اعترف فتّاح بصدق ما قاله الشيخ عبد القادِر من أخذه للحم مُهدى إلى الحضرة إلى بيته وأعلن توبته، ثم أعطى مكاناً مريحاً للرجل. واستمرَّ على هذه العبادة حتى وصل إلى مرحلة تثبيت وظيفة القطبية التي مُنحَت له في چَمْچَمال، فجاءه الشيخ عبد القادِر مرّة ثانية وأعاد عليه ما أمره به الصوت سابقاً، وهو أن ما يطلبه يجده في كَرْبْچْنَه فعليه أن يذهب هناك، ولكن نَفْس هذا الرجل العابد بقيت مكابرة لأمر الذِهاب لزيارة الشيخ عبد الكريم.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع مجموعة من المريدين، ربما في الرمادي (تسعينيّات القرن الماضي).
بعد انتهاء إقامة الرجل في الحضرة غادر بغداد عائداً إلى أهله، وفي الطريق بين چَمْچَمال وكَرْبْچْنَه، توقف في قرية «كاني كَه وَه» وقرأ القرآن أمام مقام الشيخ «معروف كوسته»، ابن الشيخ إسماعيل الوِلْياني. وبينما كان يقرأ القرآن سمع صوتاً من الضريح يأمره بالذهاب إلى كَرْبْچْنَه. فرفع القرآن بيده واقترب من الضريح وخاطبه قائلاً: «أجبني بحق هذا القرآن، هل هذا صوتك أم أن هنالك دخيل بيني وبينك»؟ أي كان يريد أن يتأكّد بأن ذلك الصوت لم يكن لأحد يريد أن يغويه مدّعياً بأنه الشيخ معروف. فجاء الرد من الضريح مؤكّداً بأن المتحدث هو الشيخ معروف وأعاد الأمر بالذهاب إلى كَرْبْچْنَه. ولكن كِبْر الرجل منعه مرة أخرى من تنفيذ الأمر، وبسبب تكبّره هذا سُلِبَت منه بركته. إذ روى بأنه شاهد يوماً يد رجل تدخل من ظهره وتخرج من بطنه، حتى أنه كان يرى الشعر على اليد، ثم انسحبت اليد، وبانسحابها ذلك سحبت معها كل البركة التي كانت عنده. وهكذا خسر مرتبة القطب التي كان مؤهّلاً لها لو أنه جاهَد نفسه وقَبِل بأخذ بيعة الطريقة من الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان، لأن هذه الوظائف الروحية لا توجد خارج الطريقة. ومن الدروس اللطيفة هو أن هذا الرجل روى قصّة خسارته لوظيفة الولاية حين زار يوماً الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، أستاذ الطريقة بعد الشيخ عبد الكريم الذي كَبُرَت على نفسه زيارته! فبدل أن يطيع الأمر بزيارة شيخ الطريقة ويحافظ على بركته، ذهب لزيارته مُكرَهاً بعد أن فقد البَرَكة، بل وقصّ في زيارته تلك الخسارة.
وفيما يلي حادثة أخرى في هذا الخصوص. في عصر أحد أيام خلوة شيخنا الأولى في منتصف عام 1978، بعد ستّة أشهر من جلوسه على سجّادة الطريقة، نظر نحو مقامات المشايخ في كَرْبْچْنَه وطلب منهم أن يعطوا الدراويش أحوالاً وتصريفاً روحياً ليساعدوه في إدارة أمور الطريقة. في تلك الليلة شاهد أستاذنا الشيخ عبد القادِر الگيلاني يسلّم على درويش اسمه «محمود» في خلوته التي كانت تحت خلوة شيخنا بحوالي ثلاثة أمتار. وسمع شيخنا هذا الدرويش يقول بأنه لن يستمدّ بعد ذلك إلا من الشيخ عبد القادِر الگيلاني، أي ظنّ أن علاقته بالشيخ عبد القادِر لم تعد تمر عبر سلسلة مشايخ الطريقة التي يربطه بها أستاذه الحاضر. فلمّا رأى شيخنا اغترار هذا الدرويش برؤية الشيخ عبد القادِر، توجّه مرّة أخرى نحو مقامات المشايخ وخاطبهم قائلاً بأنه لن يطلب منهم هكذا طلب بعد هذا، وسيترك لهم تقرير ما يريدون لأنهم أعلم. أما محمود، فإن جهله بأن زيارة الشيخ عبد القادِر له لم تكن إلا استجابة لطلب شيخنا جعله يغترّ بنفسه، وحاول بعد ذلك تغيير صيغة أحد الأوراد التي أعطاها شيخنا لدراويش الخلوة (انظر القسم 19-3)، واستمر على غروره حتى أنتهى به الأمر بالطرد من الطريقة. وللأسف هنالك حالات أخرى شبيهة لدراويش أعطاهم مشايخ الطريقة بركة فأنساهم الشيطان أن هذه البركة وصلتهم عن طريق مشايخهم، فشطّوا وضلّوا السبيل.
ومنح المشايخ إحدى درجات الولاية للدرويش يعني فتح قناة تواصل روحي بين الشيخ والمريد أياً كانت المسافة المكانية بينهما يوصل من خلالها الشيخ إلى الولي ما يريده من أشغال للطريقة. وفيما يلي إحدى كرامات شيخنا التي تخصّ أحد كبار الأولياء اسمه «أحمد مُحَمَّد أمين» (رحمه الله). ففي بداية تسعينيّات القرن الماضي، سافر شيخنا من مكان سكنه في بغداد في زيارة لكركوك، وغادر معه بعض المريدين من شمال العراق الذين كانوا في التكية الرئيسة في بغداد لزيارته. حين وصل إلى التكية الرئيسة في كركوك جاءته دعوة لحضور احتفال بمولد النبي ﷺ في اليوم التالي في مدينة الدُور التي تبعد حوالي 150 كيلومتراً. فطلب من أحد مساعديه أن يختار حوالي عشرة مريدين ليرافقوه لحضور المولد. وألقى في وقت وِرْد العصر[43] موعظة عن الأمور الروحية في الطريقة ذكر فيها ما يلي: «من الدراويش من يمكن أن ينادي من هنا على دراويش في شَهْرَزُور فيسمعوا نداءهم»، علماً بأن المسافة بين شَهْرَزُور في محافظة السليمانية والتكية في محافظة كركوك حوالي مئتي كيلومتر.
في صباح اليوم التالي، جاء أحمد مُحَمَّد أمين إلى تكية كركوك، فوجد درويشاً يعرفه اسمه «قادر مُحَمَّد محمود» من الذين جاؤوا مع شيخنا من بغداد إلى كركوك وحضروا موعظة وِرْد العصر. وكان أحمد يثق بأن قادر لا يفشي السر، فسأله همساً إن كان قد حدث أمر ما. فلما رد هذا مستفسراً عن هذا السؤال الغامض، أجابه أحمد قائلاً:
كنت يوم أمس في بغداد مع الشيخ وأخذت منه قبل سفره إلى كركوك الرخصة للعودة إلى أهلي في السليمانية. ولكن بعد وصولي إلى شَهْرَزُور ناداني عصراً ثلاث مرّات قائلاً: «تعال يا أحمد»! فلابدّ أن هنالك أمر ما. ولكني لم أستطع أن آتي يوم أمس لأن الطريق يُغلَق في المساء (بسبب الصراع حينئذ بين الحكومة المركزية والثوار الأكراد في كردستان العراق)، فانتظرت حتى الصباح حين استقلّيت أوّل سيارة وأتيت لأرى ما يريد مني الشيخ.
ففهم قادر السؤال، فأجابه بأن شيخنا أراد اصطحاب عدد من الدراويش لحضور مولد في ذلك اليوم، فيبدو أنه أراد أن يكون أحمد منهم فاستدعاه إلى التكية في كركوك. ومن المُلاحَظ في هذه الكرامة تشابهها مع كرامة نداء الخليفة عمر بن الخطّاب على القائد سارِية.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان حين كان في الحركة الكردية (ستينيّات القرن الماضي).
وفي تاريخ الطريقة الكَسْنَزانيّة عدد لا حصر له من كرامات قام بها خلفاء ودراويش أو حدثت لهم تبيّن الدرجات والوظائف الروحية الرفيعة التي حصلوا عليها، وهي حقيقة تبيّن بدورها المكانة الرفيعة والفريدة لمشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة. ويجب أن نؤكّد بأن مراتب الولاية في الطريقة ليست مقصورة على الرجال، ولكنها في متناول النساء أيضاً. فمثلاً كان كل أولاد شاه الكَسْنَزان، الأبناء والبنات، من الأولياء.
وبسبب حب الله لأوليائه ومكانتهم عنده، فإنه عز وجل عدو من يعاديهم. وقد مرّ بنا قوله في حديثه القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»،[44] قبل أن يستطرد في ذكر الخوارق التي يمكن أن يهبها لأوليائه. ولذلك فإن الجهل بأولياء الله والبعد عنهم أسلم للمرء بكثير من القرب منهم ومعاداتهم، علناً أم سراً. وهنالك عدد لا حصر له من الكرامات التي تصدّق حديث ربّ العزّة، ونذكر هنا منها مثالاً. في وقت متأخر من إحدى ليالي الصيف كان الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان جالساً في باحة مسجد كَرْبْچْنَه وفي صحبته قريب له حين نادى فجأة خادمه مُحَمَّد أمين وطلب منه أن يجلب ملقط الفحم وفانوساً. وأشار السلطان عبد القادِر إلى قدمه، فقرّب مُحَمَّد أمين الفانوس منها فرأى تحتها عقرباً كبيراً ميّتاً، فطلب الشيخ منه أن يرميه بعيداً. ثم التفت إلى جليسه معلّقاً: «إن أي شيء يقترب من الأولياء يريد أذاهم هو الذي يناله الأذى».[45]
كما ذكرنا في بداية هذا الفصل، إن الكرامات هي المِداد الذي تُكتَبُ به تفاصيلٌ كثيرة من سيرة مشايخ الطريقة، ولذلك فإن دراسة حياة أي شيخ من مشايخ الطريقة تعني التعرّف على كراماته.
[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 9 أيلول 2013.
[2] استخدم المفكّرون والفلاسفة تعبير «واجب الوجود» للإشارة إلى الله عز وجل، حيث إن وجوده أزلي أبدي، أي لا بداية له ولا نهاية: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ (الحديد/3). أما المخلوقات فهي «جائزة الوجود»، أي يمكن أن توجد أو لا توجد.
[3] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 31.
[4] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 4681، ص 131.
[5] ابن هشام، سيرة النبي ﷺ، ج 2، ص 102-104.
[6] أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ح 3251، ص 301؛ الطبراني، المعجم الكبير، ج 11، ح 12155، ص 407.
[7] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 325.
[8] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 466-467.
[9] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 36-37.
[10] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 32-33.
[11] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 28.
[12] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 895، ص 266؛ البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 66؛ الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 399.
[13] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 11.
[14] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 3500، ص 336.
[15] السكندري، حكم ابن عطاء الله، ص 164.
[16] أبو داود، سُنَن أبي داؤد، ج 5، ح 3527، ص 386-387.
[17] اللالكّائي، كرامات أولياء الله عز وجل، ص 120-122؛ العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ص 533.
[18] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 561.
[19] البيهقي، دلائل النبوة، ج 3، ص 324-325.
[20] العنقري، كرامات الأولياء، ص 154.
[21] العنقري، كرامات الأولياء، ص 155.
[22] العنقري، كرامات الأولياء، ص 163.
[23] العنقري، كرامات الأولياء، ص 24.
[24] عبد الرزّاق، المُصَنَّف، ج 11، ح 20541-20545، ص 280-282.
[25] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 3459، ص 327؛ ح 3491، ص 334.
[26] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 557-563.
[27] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 50-54، 77-80.
[28]مسلم، صحيح مُسلم، ج 4، ح 2622، ص 2024.
[29] الحديث القدسي هو معنى من غير لفظٍ محدد أوحاه الله عز وجل إلى النبي مُحَمَّد ﷺ فعبّر عنه النبي مُحَمَّد ﷺ بلفظٍ منه. فاختلافه عن القرآن هو أن كتاب الله هو من الله معنى ولفظاً. ولذلك فإن الحديث القدسي يشابه في أسلوبه الحديث النبوي الذي هو من الرسول ﷺ معنى ولفظاً.
[30] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 6273، ص 493.
[31] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 50، ص 65.
[32] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، الثلث الأخير من 10/2013.
[33] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 27.
[34] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، الثلث الأخير من 10/2013.
[35] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 9 حزيران 2000.
[36] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 15 نيسان 2016.
[37] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 أيلول 2016؛ 4 كانون الأول 2013.
[38] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 حزيران 2000.
[39] فتوحي، «كرامات الطريقة الكَسْنَزانِيّة في الهند»، ص 28-29.
[40] فتوحي، «كرامات الطريقة الكَسْنَزانِيّة في الهند»، ص 17-18.
[41] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 445.
[42] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 21 حزيران 1990.
[43] «ورد العصر» هو أحد أذكار الطريقة، انظر القسم 19-3-2.
[44] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 6273، ص 493.
[45] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 18 كانون الأول 2018.
لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
http://twitter.com/louayfatoohi
http://www.instagram.com/Louayfatooh