ضريح الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه (19 آذار 2016).
«مِن القوم مَن إذا استغنى بالله عز وجل عن الخلق وعن كل ما في الأرض اُلقيَ عليه العيال والمؤن ليرجع الى الخلق ويأخذ من أيديهم، ليكون أخذه رحمةً لهم. فيكون فقره ظاهراً وغناه باطناً، يكون غناه سرّاً وفقره جهراً. يقلّبهم الله عز وجل فيما يريد وهم سكوت متأدّبون. أوّل ما يريهم الكتاب والسُنّة، يعملون بهما فيصيرون مُتّقين. ثم يريهم الرسول ﷺ في المنام يقول لهم: «افعلوا كذا وكذا، وانتهوا عن كذا وكذا». ثم يرون ربّهم عز وجل في المنام، فيأمرهم وينهاهم. يُرَقَّون من درجة الى درجة، من كتاب الى كتاب، من دار الى دار من ذكر الى ذكر».
الشيخ عبد القادِر الگيلاني (جلاء الخاطر، ص 52)
ولد الشيخ عبد القادِر في كَرْبْچْنَه عام 1867 حين كان عمر والده الشيخ عبد الكريم شاه الكَسْنَزان ثلاثة وأربعون عاماً. وأصبح أستاذ الطريقة خلفاً لوالده وعمره خمسة وثلاثون عاماً.
كان كل أبناء شاه الكَسْنَزان من الأولياء، كما كان حال بناته. ومن الطبيعي أن تكون لأكبر أبناءه سناً مكانة اجتماعية وعشائرية كبيرة، ولكنّه أختار أصغرهم سناً ليجلسه على سَجّادة مشيخة الطريقة، لأن مشيخة الطريقة هي اصطفاء، لا اكتساب، لمن هو أكثر أهلية من الناحية الروحية. ولأن هذا الخيار ينبعث عن أسرار روحية فقد لا يفهم الناس سر اختيار الشيخ لشخص معين ليخلفه على سجادة الطريقة بدل آخر يبدو لهم أكثر أهلّية واستحقاقا.
بعد وفاة شاه الكَسْنَزان نافس أول أبناءه، أحمد، أخيه عبد القادِر على مشيخة الطريقة، حيث لم يتقبّل أمر والده وشيخ الطريقة ظانّاً بأنه أكثر أهلّية من أخيه لخلافة الشيخ المنتقل. وكان الشيخ أحمد يوماً جالساً مكان شاه الكَسْنَزان حين مرَّ أمامه الشيخ عبد القادِر وسلَّم عليه فردّ السلام، وبعد ثوانٍ شاهد أخاه الأصغر سناً يمر أمامه مرة أخرى في نفس الاتّجاه مسلّماً فرد عليه السلام، وبقيت هذه الحالة تتكرر عشرات المرّات. فذُهِلَ الشيخ أحمد وفهم دلالة هذه الكرامة بأن من يختاره شيخ الطريقة لخلافته إنما يجتبيه على علم، فيصبح موضع عناية ورعاية مشايخ الطريقة ويحصل منهم على قوة روحية لا تتوفر لغيره، فأقرَّ بخطئه في منافسة أخيه، واعترف بأن الشيخ عبد القادِر هو شيخ الطريقة بعد والدهما. ترينا هذه الكرامة أيضاً حضور شيخ الطريقة روحياً في أكثر من مكان في نفس الوقت، وهي ظاهرة معروفة عن كِبار مشايخ الطريقة في التاريخ، بما فيهم مشايخ الكَسْنَزان.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح، عمّان، (14 نيسان 2014).
كان الشيخ عبد القادِر كوالده تقياً عابداً، وكان عادة ما يجلس على ركبتيه، كما في حالة الصلاة، مواجهاً للقبلة، وكان قليل الكلام وفي حالة ذكر مستمر. وكان يحب استخدام مسبحة كبيرة الخرزات من حجر اليسر الأسود غير المُطعَّم بغيره من الأحجار، وهذه من آثار المشايخ التي آلت إلى شيخنا. ومن سلوكيّات الشيخ عبد القادر التي ميّزته حتى عن باقي المشايخ هي أنه بعد انتهاء مجلسه مع عائلته ليلاً كان يذهب إلى المسجد ليصلّي العشاء ويبقى يتعبّد هنالك حتى صلاة الظهر، ثم يعود إلى البيت.
ومن مآثر زهده أنه مرّ يوماً بفرن التكية فأخذ بيده قطعة خبز حار ثم أعادها مكانها، والتفت إلى درويش يسير وراءه وقال له: «منذ سبع سنوات ونفسي تطلب مني خبزاً حاراً، لكن والله لن أعطيها».[1] ودعاه أحد المريدين إلى وجبة طعام فلبّى الدعوة وكان معه عدد من الدراويش. وبعد أن غادروا المكان علّق الشيخ ممازحاً على كمية الطعام التي أكلها الدراويش، فأجابوه بأنهم رأوه يأكل فشجّعهم ذلك. فضحك ودعاهم ليقتربوا ومدّ يده في ملابسه في منطقة الصدر وأخذ يخرج منها الطعام الذي ظنّ المريدون أنهم قد تناوله![2]
كدأب كل مشايخنا، كان السلطان عبد القادِر يحب الأيتام ويرعاهم. كان مرّة يسير بين حوض شاه الكَسْنَزان وجامع كَرْبْچْنَه حين رأى طفلين يتيمين، فمدّ يده في جيبه ليعطيهم مالاً، فلم يجد شيئاً. فسأل مرافقيه إن كانوا يحملون مالاً، ولكنهم أيضاً لم يكن لديهم شيء. فرفع الشيخ الطفلين على كتفيه وسار وهو يحملهما حتى ضحكا ونزلا. وحين سأله الناس عن ذلك أجاب بأن زعل هذين اليتيمين يؤدي إلى زعل الله عليه، ولذلك أراد أن يعطيهما شيئاً يفرحهما، ولما لم يكن لديه مالٌ فإنه حملهما على كتفيه ليدخل السرور إلى قلبيهما. كما كان الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان يضع بعض طعام التكية جانباً ويخرج ليلاً ليوزّعه بنفسه على الأيتام.
وتبين الحادثة التالية رقّة قلب هذا الشيخ الكريم. كان في شبابه في رحلة صيد أرانب حين أطلق كلاب الصيد وراء أحدها. فإذا بالأرنب يهرب باتّجاه الشيخ ثم يقفز على سرج الفرس الذي كان يمتطيه ويجلس أمامه. ونظر الأرنب إلى الشيخ وأخذت الدموع تسيل من عينيه. فلمّا رأى الشيخ عبد القادِر هذا الموقف الخارق للطبيعة أخذ هو أيضاً بالبكاء ورأى فيه إشارة. فطلب من مرافقيه أن يربطوا كلاب الصيد ويأخذوا الأرنب إلى مكان بعيد لا تصله. وعلى أثر هذه الحادثة، ترك الشيخ عبد القادِر الصيد تماماً.[3]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أثناء الصلاة، ربما في السليمانية، (ربما 2001-2005).
للشيخ عبد القادِر تاريخ كبير في جِهاد الظلم والاحتلال. فمثلاً وقف ضد الظلم العثماني حين أراد قائد تركي تجنيد أهل قرية كَرْبْچْنَه غصباً، من ضمن حملة «سفر برلك» (النفير العام أو الترحيل الجماعي) سيئة الصيت، ليكونوا وقود حرب لا علاقة لهم بها، فعاد قائد الجندرمة فزعاً خالي الوفاض من غير أن يجنّد أحداً من أهل القرية. ومثلما حفّز الشيخ عبد القادِر الگيلاني أولاده على الجهاد ضد الاحتلال الصليبي، دفع الشيخ عبد القادِر ابنه الشيخ حُسَين على قتال المحتلّين لأرض المسلمين في كردستان.
أفتى الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان بالجهاد ضد القوات الروسية التي غزت الأراضي الإيرانية ثم العراقية في بداية الحرب العالمية الأولى وارتكبت مجازرَ ذهب ضحيّتها الكثير من الأطفال والنساء والشيوخ ومثّلت بجثثهم. فلبى مئات المريدين النداء وتجمّعوا في كَرْبْچْنَه متطوّعين للجهاد. فشكّل الشيخ جيشاً ووضع على قيادته ابنه وشيخ الطريقة من بعده حُسَين، وكذلك ابن أخيه رضا، وانظمَّ تحت هذه القيادة المباركة أناس من رؤساء العشائر والمتنفذين، وقاد الثائر الكردي الشهير محمود الحفيد رتلاً آخر من المجاهدين، فالتقت القوّتان المحلّيتان ودخلتا في معركة طاحنة ضد الجيش الروسي استمرت عدّة أيام في منطقة حدودية بين مدينة بنجوين العراقية ومدينة بانه إلى الشمال داخل الحدود الإيرانية. وبدعم ظاهري وهمّة روحية من الشيخ عبد القادِر، الذي اتّخذ مقاماً له في مدينة بنجوين، هزمت أعداد المجاهدين القليلة ذوي الأسلحة الخفيفة الجيش الروسي الكبير المدجّج بمختلف أنواع الأسلحة، وكبّدته الكثير من القتلى والأسرى. ولاحق المجاهدون فلول الجيش المندحر حتى بحيرة أرومية الإيرانية القريبة من حدود تركيا وأرمينيا وأذربيجان.[4]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، ربما في مزرعة الدورة (ربما في منتصف التسعينيّات).
كما أعلن الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان الجهاد ضد الاحتلال البريطاني. ففي 20 أيّار 1919، قام محمود الحفيد بالسيطرة على السليمانية وعيّن قائم مقام، أي حاكم إداري، جديد وسيطر على السجلات والخزائن الحكومية وقطع الاتصالات البرقية مع كركوك. فحرّك البريطانيون قوة من منطقة كِفْرِي إلى السليمانية لفك الحصار. فلما علم الحفيد بذلك، أرسل طالباً مساعدة الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان في دحر القوة البريطانية. وفي 22/5، وبإيعاز من الشيخ عبد القادِر، قاد الشيخ حُسَين والشيخ رضا قوّة من الشمال، وقاد الشيخ عبد القادِر گُلَه نَبَر، والد السيدة حفصة زوجة المستقبل للشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان، وابنه الشيخ مصطفى قوّة من الجنوب، واستدرجوا القوات البريطانية إلى كمين نصبوه بين قريتي كَرْبْچْنَه وكْچان. وحسم المجاهدون المعركة بسرعة لصالحهم، وقتلوا البعض وأسروا البعض الآخر، كما نزعوا أسلحة القافلة واستولوا على الخزانة المالية التي كانوا ينقلوها وعلى خيلهم.[5] وكان من بين الأسرى قائد القوة النقيب «مار»، الذي جُرِح في المعركة، وضابط اسمه «اشكوفيل». وأُطلِقَ سراح الأسرى بعد فترة من الزمن، فيما دفن الثوّار قتلى القوات الغازية في كَرْبْچْنَه. وتجدر الإشارة إلى أنه لسنگاو، حيث تقع كَرْبْچْنَه، أهمية استراتيجية لأنها كانت على خط التجارة بين السليمانية وبغداد.
بعد أقل من شهر من هزيمتهم في معركة سنگاو، حرّك البريطانيون جيشاً جرّاراً مدعوماً بالطائرات والمدرّعات من كركوك إلى چمچمال لإنهاء سيطرة محمود الحفيد على السليمانية ولمطاردة قادة معركة سنگاو، بما فيهم الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان والشيخ حُسَين الكَسْنَزان والشيخ عبد القادِر گُلَه نَبَر. وفي 18/6، اشتبك المجاهدون مع القوات البريطانية في معركة كبيرة في دربند بازيان، ولكن الفرق الكبير في العدّة والعدد رجّح كفّة الغزاة. وجُرِحَ في المعركة محمود الحفيد ووقع مع صهره محمد غريب في الأسْر، وكان ممن جُرِحَ في المعركة الشيخ مصطفى، خال الشيخ حُسَين الكَسْنَزان. وطارد الجيش البريطاني قادة قوّات المجاهدين، فتوجّه نحو كَرْبْچْنَه وحاصرها وأحرقها انتقاماً، ولكن بعد أن تركها الشيخ عبد القادِر مع أسرته والتجأ إلى كهف في الجبل.
ثم حاصر الجيش البريطاني الجبل، إلا أن الله أنقذه مثلما أنجى من قبل جده الأعظم ﷺ حين هاجر من مكة إلى المدينة. ومن الكرامات التي رافقت هذه الهجرة المباركة هو فشل الجنود البريطانيون وأعوانهم من المرتزقة المحلّيين في العثور على الشيخ عبد القادِر وأهله ومن معه رغم وصولهم إلى الكهف الذي اختبأوا فيه. بل ترك الجنود آثار أحذيتهم على عباءات بعض النسوة المهاجرات ولكنهم عَمَوا عن رؤيتهم. ونرى سخط الإدارة البريطانية في العراق على الشيخ عبد القادِر من وصف أحد موظّفيها الرفيعين، سيسل إدموندز، له بأنه «كثير الدسائس مثير للفتن».[6]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في كركوك (ربما في بداية التسعينيّات).
ذهب الشيخ عبد القادِر وعائلته إلى قريتي خاويه وكَسْنَزان، حيث يعيش الكثير من المريدين والأقرباء، ثم بقي ليلة واحدة في قرية كاني سِيف على جبل سُورين الذي يفصل بين العراق وإيران. كان المهاجرون بحاجة إلى الطعام، فوضع أهل القرية لهم الطعام على الحجر بدل الأواني، لأنهم ظنّوا بأنهم كانوا من الغجر الرُحَّل، الذين كانوا يُعتَبَرون قذرين. فأحزن هذا الموقف عائلة الشيخ وأبكاهم، إذ زاد الظروف الصعبة التي كانوا يمرّون بها نتيجة الهجرة قسوةً سوءُ المعاملة، وقد اعتادوا على احترام الناس لهم، فهدأهم الشيخ عبد القادِر قائلاً: «لا تبكوا، سترون ما سأفعل لكم حين أصل إيران». واستقرّ الشيخ عبد القادِر في غرب إيران، حيث عاش بقية حياته في قريتي نِجمار وپِيران في منطقة هَوْرامان أمام جبل سُورين.
من معالم ورع هذا الشيخ العظيم أنّه عندما سكن في إيران في قرية كان قد اغتصبها أحد الإقطاعيين من مالكيها الشرعيّين فإنه حرَّمَ على نفسه استخدام ماء تلك القرية لأي من حاجاته اليومية، لأنه اعتبر ماءها مُلكاً مغتصباً من صاحبه الشرعي. فاكتفى الشيخ طيلة الفترة التي عاشها في القرية باستخدام ماء من إذابة الثلج.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أثناء نشاطه في الحركة الكرديّة، في قرية عمرافغان في هَوْمَرامان في قضاء قرداغ، (1963).
خلال إقامة الشيخ عبد القادِر في إيران، أرسلت له زوجة ملك سنندج «مُلوكة خان»، وكانت من إحدى كبار العوائل الكردية الغنية هناك التي تملك الكثير من القرى والأراضي في منطقة مَريوان في إيران وهَوْمَرامان في قَرَه داغ في العراق، وثائق تملّك عشر قُرى. ولكنّ الشيخ المهاجر ردّ الهدية شاكراً قائلاً بأنه درويش لا يحتاج إلى قُرى. وحين تدخّل ابنه الشيخ حُسَين محاولاً إقناعه بقبول الهدية، قال له: «يا بني، هذه لا تنفعنا، إن طبلنا ودفّنا أحسن من القُرى»، في إشارة إلى طبلة ودف الذكر. فأشار الشيخ حُسَين إلى إحدى العوائل الصوفية المعروفة في السليمانية التي تملك الكثير من الأراضي، فأجابه أستاذ الطريقة بأن تلك الأملاك ستنتهي في أيدي الكثير من الأحفاد السيئين، وهو ما حدث فعلاً، وكرر الشيخ عبد القادِر قوله: «إن طبلنا ودفّنا أحسن من القرى».
وكما هو الحال مع كلّ ما يمرّ على مشايخ الطريقة، فقد كان هنالك أمر عظيم أراده الله من هذه الهجرة. إذ قام الشيخ عبد القادِر بحملات إرشاد واسعة أعاد فيها نشر تعاليم الإسلام وتثبيته بين الناس، وانتشرت الطريقة الكَسْنَزانِيّة بشكل كبير في إيران. ومما جعل للشيخ المهاجر هذا التأثير الكبير على الناس هو كراماته التي لا حصر لها. ويصف الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد حياة جدَّه الشيخ عبد القادِر بأنها كانت كلّها كرامات، ويضيف بأنه ربما لم يكن لأحد من الأولياء غير الشيخ عبد القادِر الگيلاني عدد أكبر من الكرامات. [7]
ومن الجدير بالذكر بأنه بالرغم من أن موظف الإدارة البريطانية سيسل إدموندز يذكر الشيخ عبد القادِر بشكل عابر مرّتين فقط في كتابه الشهير عن فترة خدمته في العراق، فإنه في المرة الوحيدة التي ذكره فيها بشكل مباشر وانتقده لإثارته للفتن ذكر كرامة له رواها له الشيخ عبد الكريم قادر كرم تبيّن معرفة الشيخ لوقت وفاته وتهيّؤه لها بجمعه لأولاده وتعيين أحدهم، ويقصد به حُسَين، شيخاً للطريقة بعده. وهكذا كان الشيخ عبد القادِر معروفاً بكراماته حتى أنه حين ذكره عدوٌ له من الساسة البريطانيين بشكل عابر في كتاب عن التاريخ السياسي لم يستطع إلا أن يذكر إحدى كراماته. والطريف أن إدموندز يعترف بعد روايته للكرامة بأن صورة الشيخ عبد القادِر المقدَّسة عند راوي الكرامة تتعارض مع صورته عند البريطانيين، ثم ينهي تعليقه ذلك بالقول الدارج «واللهُ أعلم»![8]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في مجلسه في تكية بغداد (25 أيّار 1990).
لكن رواية إدموندز غير دقيقة، ولذلك سنروي هنا تفاصيل الوفاة كما رواها أحد شهودها، الحاج عبد الكريم الحاج صالح، الذي ربّاه السلطان عبد القادِر منذ أن كان طفلاً يتيماً وأبقاه قريباً منه، كما كان أحد المقاتلين مع الشيخ حُسَين. في يوم وفاته، بدا الشيخ في صحّة جيّدة، ولكن بعد العشاء بدأت حرارة جسمه في الارتفاع. فاستلقى الشيخ باتّجاه القبلة مُحاطاً بأهله، بما فيهم أبنائه الأربعة حُسَين، وكاكا مُحَمَّد، وعبد الكريم، ومحمد صالح. ويبدو أن تجمّع أهله حوله، رغم أن مرضه بدا بسيطاً، سببه إبلاغ الشيخ لهم بأن وقت انتقاله قد حان. وكان الشيخ في حالة ذكر ولا يتكلّم، كما هو أمره في معظم الأوقات. كانت في الغرفة فتحة صغيرة للتهوية والإضاءة، كما كان حال الغرف في ذلك الوقت، وفيها شمعة مضيئة في كل من أركانها الأربعة. وفجأة دخل من فتحة التهوية طير صغير أخضر اللون، دار على الشمعات وأطفأها. فلما قام الحضور بإضاءة الشمعات وجدوا الشيخ قد انتقل إلى جوار ربّه، فلم يشهدوا لحظة مغادرته للحياة.[9] ولم يستغرق مرض الشيخ سوى ساعة واحدة. ويحضرنا هنا كلام الغوث الأعظم الشيخ عبد القادِر الگيلاني بأن كيفية أخذ ملك الموت لروح الإنسان تعكس حاله من خير أو شر في الدنيا والآخرة:
«إذا رأيت مَلَك الموت، على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام، جاء إليك بوجه ضاحك منبسط، وأعوانه كذلك، وسلّموا عليك وأخذَ روحك بالرفق، كما أخذَ أرواح الأنبياء والشهداء والصالحين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأبشر بالخير في القيامة. فاليوم الأول يريك اليوم الثاني وعنوانه. إن رأيت خيراً فخير، وإن رأيت شرّاً فشر. جاء مَلَك الموت إلى موسى، على نبيّنا وعليهما الصلاة والسلام، وبيده تفّاحة فأشمّه إيّاها، فأخذ روحه في تلك الشمّة. وهكذا كل من قربت منزلته عند الله عز وجل، يأخذ روحه على أسهل ما يكون وأجمل حالة».[10]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مغادراً مسجد تكية بغداد ومتوجهاً إلى بيته، ربّما بعد انتهاء ورد العصر، (بداية التسعينيّات).
كما حدثت كرامات مذهلة حين أعاد الشيخ حُسَين جنازة والده من إيران لدفنه في جوار والده شاه الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه. كان المطر يهطل من دون توقّف فغطّى الدراويش تابوت الشيخ بغطاءٍ واقٍ وحملوه على أكتفاهم. وأثناء نقلهم الجنازة داخل الحدود العراقية، توجهوا نحو جسر على وادي ليعبروا عليه. ولكنهم حين اقتربوا من الجسر أخذ التابوت فجأة يزداد ثقلاً حتى اضطروا إلى أن يسارعوا بإنزاله عن أكتافهم ويضعوه على الأرض. ومهما حاولوا رفعه مرة أخرى لم ينجحوا لأنه أصبح أثقل حتى من أن يحرّكوه. أدرك المريدون بأن هذا أمر فوق طبيعي، فأقاموا حلقة ذكر عسى أن تؤدي إلى عودة التابوت إلى وزنه الطبيعي، ولكن الأمر لم يتغّير. تدخّل هنا درويش من أصحاب الأحوال قائلاً بأن الشيخ عبد القادِر قال حين هاجر بأنه لن يطأ أرضاً يحتلها البريطانيون وإن هذا الجسر هو من بناء القوات المحتلّة، ولذلك فلا يمكن أن يعبر الشيخ عبد القادِر عليه حتى بعد وفاته. فجلس هذا الدرويش قرب رأس الشيخ الراقد داخل التابوت وخاطبه قائلاً بأنهم أدركوا بأنه لا يريد العبور فوق هذا الجسر الذي بناه البريطانيون، ولذلك فإنهم سيعبرون بتابوته عن طريق الوادي حتى لو غرقوا. كان استمرار المطر لعدة أيام قد جعل ذلك الوادي مليئاً بالماء وبعمق لا يمكن عبوره من غير كرامة من الشيخ. بعد كلام الدرويش مع الشيخ، حاول الدراويش مرّة أخرى رفع التابوت فوجدوه قد عاد إلى وزنه الطبيعي. كان الماء قد ملأ الوادي حتى أن رؤوس الخيل كانت بالكاد تطفوا فوق سطحه، ولكن من الغرائب أن الماء كان يصل فقط إلى ركاب الدراويش الراجلين الذين كانوا يحملون الجنازة ويرافقونها. وهكذا عبر الدراويش بالتابوت إلى جهة الوادي الأخرى من غير استخدام الجسر أو أن يغرقوا. وكما لاحظ الخليفة ملّا علي الذي كان من الذين نقلوا الجنازة بأن استمرار المطر لمدة سبعة أيام متواصلة يعني بأنه حين وصل تابوت الشيخ إلى العراق كان المطر قد أزال كل أثر لأقدام جنود الاحتلال، وكأنه يجهّز الأرض لدخول الشيخ الذي رفض أن يطأ الأرض المحتلة.
الشيخ عبدُ الكريم الكَسْنَزان، ومعه توفيق وهبي بيك أحد الأعيان والوزراء في العهد الملكي، ربما في كَرْبْچْنَه (الخمسينيّات).
واستمر الدراويش في حمل رحلتهم بالتابوت حتى وصلوا إلى تقاطع يؤدي إلى طريقين، أحدهما يقود إلى كَرْبْچْنَه، حيث كانوا يريدون دفن الشيخ. ولكنهم وجدوا عنده عدد من الخلفاء والدراويش يسكنون قرية أخرى يقود الطريق الآخر إليها. كان هؤلاء قد علموا بأن الجنازة ستمر من هنالك في طريقها إلى كَرْبْچْنَه، فجاءوا يحاولون أن يأخذوها لتدفن في قريتهم بدلاً من كَرْبْچْنَه تبرّكاً بالشيخ. وذكّرهم الدراويش الآخرون بأن مرقد شاه الكَسْنَزان هو في كَرْبْچْنَه وأنها أيضاً مسقط رأس الشيخ عبد القادِر ولكن ذلك لم ينجح في إقناع هؤلاء بأن يتركوهم في الاستمرار في طريقهم إلى كَرْبْچْنَه. بل وأصرّوا على أن يأخذوا الجنازة إلى قريتهم حتى لو تطلّب الأمر رفع السلاح في وجه الدراويش الذين كانوا متوجّهين بالجنازة إلى كَرْبْچْنَه. حينئذ تدخّل ذلك الدرويش صاحب الحال وخاطب الشيخ مرّة أخرى. وقال له بأنهم يريدون أن يأخذوه ليرقد في كَرْبْچْنَه ولكن تلك المجموعة الأخرى من المريدين يريدون أن يأخذوه إلى قريتهم، وطلب منه أن يعطيهم إشارة إلى المكان الذي يختاره هو. وما أن أنتهى الخليفة من سؤال الشيخ حتى استدار التابوت الذي كان على الأرض وتحّرك باتّجاه كَرْبْچْنَه ما يقارب الثلاثة أمتار من غير أن يلمسه أحد. حينئذ أقرّ سكان القرية الأخرى بأن كَرْبْچْنَه يجب أن تكون مكان رقود الشيخ ورافقوا باقي الدراويش في رحلتهم إليها.
وكما ذكرنا، فإن كرامات الشيخ عبد القادِر لا تُحصى، وسنذكر هنا بعضاً منها حدثت لمحمود الحفيد الذي كان لديه إيمان قوي بقدرات الشيخ عبد القادِر الروحية. بعد أن وقع الحفيد في قبضة البريطانيين في معركة دربند بازيان، وبعد أن شفي من جراحه في تلك المعركة، حكمت عليه محكمة عسكرية بريطانية بالإعدام، ثم خُفِّفَ الحُكم إلى السجن لمدة عشر سنين ونُفِيَ ليقضي سجنه في الهند عام 1921. وكان معه في سجنه في المنفى صهره محمد غريب، المحكوم بالسجن لمدة خمس سنوات.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في تكية بغداد (منتصف التسعينيّات).
استمدّ محمود الحفيد يوماً من الشيخ عبد القادِر، الذي كان مهاجراً في إيران، طالباً نقوداً تساعدهم في شراء حاجات تخفّف من قسوة السجن عليهم. فإذا بكمية من الطين تُرمى داخل السجن من فتحة بابه. فقال الحفيد بخيبة معاتباً: «بدل أن يرسل لنا نقوداً أرسل طيناً»! ولكن الفضول راودَ مُحَمَّد غريب فتناول قطعة الطين وإذا به يكتشف داخلها ليرات ذهبية.[11]
كما ظهر الشيخ عبد القادِر لمحمود الحفيد في المنام وبشّره بأنه سيتمّ إطلاق سراحه وأنه سيعود ويُنصَّب حاكماً، وأعطاه دليلاً بأنه في وقت شروق الشمس ستهبّ عاصفة شديدة تقلع شجرة كانت في ساحة السجن. وفعلاً، أطلق البريطانيون فيما بعد سراح السجينين، وبقي محمود الحفيد فترة في الكويت قبل أن يعيده البريطانيون إلى العراق لينصّبوه حاكماً على كردستان العراق في أيلول من عام 1922، وفي تشرين الثاني أطلق على نفسه لقب «ملك».
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في بيته في السليمانية، 17 آب 2004.
ألقى جنود محمود الحفيد القبض على رجل يسلك طريقاً جبلياً واتهموه بأنه جاسوس، ولكن الرجل ادّعى بأنه أحد مريدي الشيخ عبد القادِر وأنه كان في طريقه لزيارته في إيران. ولعلم الجنود بالاحترام الذي يكنّه الحفيد للشيخ عبد القادِر فإنهم أخذوه إليه. فلما أعاد الدرويش روايته أمام الحفيد، قال له هذا بأنهم لن يتخلّصوا منه حالياً ولكن سيلقونه في السجن وإذا كان صادقاً في دعواه فليأتي بإشارة تؤيده. في صباح اليوم التالي طلب السجين أن يأخذوه إلى محمود الحفيد وأخبره بأنه شاهد الشيخ عبد القادِر الذي طلب منه أن يسأل الحفيد عن اليد التي أعطته سكيناً وهو في سجنه في الهند. فلما سمع الحفيد بذلك تأكّد من صدق الدرويش ودعاه لتناول الطعام معه ثم أمر جنوده بأن يدعوه يكمل رحلته لزيارة الشيخ عبد القادِر. فحين كان محمود الحفيد وصهره في السجن، أرادا أن يزيلا شعر العانة والإبط وفقاً لمتطلبات الشريعة، ولكن لم يكن لديهما ما يستخدمانه لذلك الغرض. وإذا به يرى يداً تمتد وتعطيه سكينا تفي بالغرض. فأدرك الحفيد بأن اليد كانت يد الشيخ عبد القادِر وأن هذا الدرويش ما كان سيعلم بتلك الكرامة لو لم يكن الشيخ عبد القادِر قد أخبره فعلاً.[12]
حين كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد في بغداد، جاء أولاد شيخ للطريقة النقشبندية في شمال العراق اسمه عثمان بيارة لزيارته. وبعدها لفترة أرسل أستاذنا كبير أولاده، نهرو، وكان لا يزال طفلاً لزيارة الشيخ عثمان. حين علم الأخير بوصول ابن شيخنا، وقف أمام غرفته ينتظر وصوله إليه. حين وصل، أجلسه بجانبه وأخذ بنفسه يقشّر الفاكهة ويقدّمها له. فسأله أحد الحضور عن سلوكه الغريب هذا مع طفل، فأجابه بأن ما قد رآه من جد هذا الطفل، يقصد الشيخ عبد القادِر، لم يرَه من أحد أبداً. وروى الشيخ عثمان للحضور أن والده، الشيخ علاء الدين، الذي كان شيخاً للنقشبندية، أمره بأن يذهب لأخذ بيعة الطريقة القادِريّة من الشيخ عبد القادِر حين سكن قريباً منهم. فأخذ معه بضعة دراويش وتوجّه إلى حيث كان الشيخ عبد القادِر مقيماً مثلما أمره والده. فلما وصل إلى المخّيم ناداه صوت من بعيد: «عثمان، تعال هنا». تفاجأ عثمان تماماً بهذا لأنه لم يكن هنالك أحدٌ يعرفه، كما لم يكن أحدٌ يدري بهذه الزيارة وغرضها سوى هو ووالده. فتلفّت حوله فشاهد خيمةً مفتوحة الستارة ورأى رجلاً داخلها يكرّر النداء. لم يكن عثمان قد قابل هذا الرجل سابقاً ولكنه أدرك بأنه الشيخ عبد القادِر. فعقل عثمان ومن معه دوابهم وتقدم إلى خيمة الشيخ وسلّم عليه وأحنى رأسه ليقبّل يده. وبعد أن لامست شفتاه يد الشيخ، أراد أن يرفع رأسه فلم يعد قادراً على ذلك. بقي عثمان على هذا الحال لوهلة حتى أمره الشيخ عبد القادِر بأن يرفع رأسه، فإذا به يسترجع السيطرة على رأسه فرفعه عن يد الشيخ. [13]
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في الجلوس الذي في نهاية حلقة الذكر في مرقد السيد أحمد الرفاعي قدّس الله سره العزيز (ربما نهاية الثمانينيّات).
عاش الشيخ «المهاجر»، كما يُعرَف الشيخ عبد القادِر، في إيران حوالي ثلاثة أعوام منذ منتصف 1919 لم يعد خلالها إلى العراق، حيث توفي عام 1922 وله من العمر خمسة وخمسون عاماً. فخدم الطريقة أستاذاً لها لمدة عشرين عاماً.
[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 25 أيار 2000.
[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 1 أيلول 2017.
[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 3 أيّار 2018.
[4] علي حُسَين الكَسْنَزان، «المجاهد الأكبر الشيخ عبدالقادِر الكَسْنَزان».
[5] حمدي، «الكرد وكردستان في الوثائق البريطانية»، ص 72-73؛ Bell, “Review of the civil administration of Mesopotamia”, pp. 64-65.
[6] إدموندز، «كورد وترك وعرب»، ص 480.
[7] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 24 أيلول 2013.
[8] إدموندز، كورد وترك وعرب، ص 479-480.
[9] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 28 تشرين الأول 2013.
[10] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 106.
[11] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 18 حزيران 2018.
[12] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 18 حزيران 2018.
[13] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 24 أيلول 2013؛ 3 أيّار 2018.
لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
http://twitter.com/louayfatoohi
http://www.instagram.com/Louayfatoohi