المؤلف: لؤي فتوحي
الموضوع: مقارنة الأديان
تاريخ النشر: 2015
ستبقى علوم ومعارف القرآن الكريم دائما أكبر من أن يلم بها إنسان وذلك لسببين، هما عمق وامتداد العلوم القرآنية من جهة، ومحدودية ما يمكن للإنسان، بل وكل مخلوق، إدراكه واستيعابه من تلك العلوم من جهة أخرى. ومن أسباب محدوديّة الإنسان هذه هو محدوديّة معارفه العامة التي تشكّل بعض مصادر دراسة النص القرآني، وكما سنرى ببعض التفصيل في القسم 12-1. وهذا بدوره يعني بأنَّ ازدياد المعارف البشرية بمرور الزمن سيوفّر بشكل مستمر مصادرا جديدة لدراسة النص القرآني وفهمه. لذلك من غير الممكن لأي تفسير مضى أو سيأتي، ومهما كانت درجة علم المفسِّر، أن يدّعي بأنَّه تفسير كامل وشامل لكل معاني النص القرآني، أي نص قرآني، ولا أن يدّعي إمتلاكه للكلمة الأخيرة حول معاني ذلك النص.
إن عمق علوم النص القرآني المقرون بمحدودية قابليّة المفسِّر ومصادر التفسير تعني بأنَّ باب الاجتهاد في تفسير النص لابد أن يبقى مفتوحا. ووصف سيدنا مُحمَّد القرآن العظيم بأنَّه كتاب «لا تنقضي عِبَرُه ولا تفنى عجائبه» هو دليل جلي على ضرورة عدم التوقّف عن دراسة هذ الكتاب الفريد والاستمرار في محاولة معرفة المزيد والجديد عنه.
وتعاني الكثير من التفاسير من مشكلة منهجية خطيرة، وهي اعتمادها في تفسير النص القرآني على نصوص ليس من الممكن التحقّق من صحّتها، أو مشكوك في صحّتها، أو حتى ذات شبهة وعيوب واضحة، بما في ذلك أحاديث منسوبة إلى النبي. وكما أشرت في كتابي النسخ في القرآن العظيم والقانون الإسلامي فإن «قراءة المرء للقرآن عندما يكون لابسا لنظّارات الحديث غالبا ما تجعل معاني حتى أوضح الآيات خفيّة عن أكثر الأعين خبرة»، وطبعا ينطبق هذا على غير ذلك من النصوص. وبسبب هذا العيب المنهجي، الذي سندرسه في الفصل الأول، كثيرا ما يتم تحميل النص القرآني الكريم معاني ليس لها أية صلة حقيقيّة به. إن تجنّب الوقوع في هذا الفخ المنهجي والاعتماد بدل ذلك على منهج استخدام النص القرآني في تفسير نفسه، وهو ما أدعو الله أن أكون قد نجحت في القيام به في هذا الكتاب، كفيل بتجنيب أية محاولة التفسير الكثير من الأخطاء واللادقّة.
من المهم أن يطّلع دارس النص القرآني على ما تقدَّم من محاولات تفسير لذلك النص. إلا أن الأكثر أهمية من هذا أن يكون المفسِّر قادرا على النظر إلى النص القرآني والتفكّر في معانيه بمعزل عما شاع عن ذلك النص من تفاسير. إن هذا شرط منهجي أساسي لضمان أن يتمكّن المفسِّر من قراءة النص القرآني مباشرة لا من خلال نص آخر يمثّل فهما معيّنّا لذلك النص. ولكن للأسف فإن معظم محاولات تفسير القرآن تفتقر إلى هذه الخاصّيّة الأساسية وتعكس تأثر المفسِّر بتفاسير معيّنة على حساب دراسته للنص القرآني بحياديّة.
إن لكل سورة من سور القرآن العظيم خصوصيّتها وميّزاتها، وكذلك لسورة يوسف مكانتها المتميّزة بين باقي سور القرآن. فمن خلال قصّة فريدة سيّر الله حوادثها بأيدي لطفه وأحْكَمَ قَصّها في كتابه العزيز تمنحنا هذه السورة الكريمة دروسا عظيمة تسلب القلب بجمالها وتأسر العقل بحكمتها. وكباقي سور القرآن العظيم التي أنكبّ العلماء على دراستها منذ القِدَم كانت لسورة يوسف حصّتها من محاولات البحث والتفسير التي قام بها مُفسِّرو النص القرآني. لذلك فإن تقديم تفسير آخر لهذه السورة الكريمة يجب أن يبررّه تحلّي هذا التفسير بالحداثة والأصالة وإضافة الجديد إلى ما سبق وأن قدّمه آخرون. إن هذا التفسير يختلف كثيرا عن التفسيرات التقليدية لسورة يوسف ويخرج من تحليله للآيات الكريمة باستنتاجات كثيرا ما تخالف ما شاع من أراء بين المفسِّرين.
لقد ذكرت أعلاه بأنَّ نجاح محاولة تفسير نص قرآني ما لا يعني أكثر من نجاحها في تفسير بعض معاني ذلك النص الكريم. ومن الطبيعي أن أية محاولة تفسيرية هي عِرضة للخطأ أيضا، لذلك فإنني ابعد من أن أدّعي بأنَّ تفسيري هذا يخلو من العيوب وأنني نجحت في تفسير كل ما حاولت تفسيره من آيات الذكر الحكيم. إن مما لاشك فيه أن لهذه الدراسة أخطاءها وعيوبها ونواقصها، حالها في هذا حال أية محاولة بشرية متواضعة ومحدودة لدراسة النص الإلهي السامي. وعادة أصف هذه الحالة العامة بالقول بأنَّني أعلم بوجود أخطاء وعيوب في كتاباتي إلا أنني لا أعلم هذه الأخطاء والعيوب تحديدا، وإلا لعالجتها طبعا!
فكل ما أستطيع قوله عن هذا التفسير هو أنه تجنّب الكثير من العيوب الشائعة في محاولات تفسير النص القرآني بشكل عام وتفسير سورة يوسف بشكل خاص، ولذلك فإنني أعتقد بأنَّه نجح بشكل عام، لا في كل موضع، في أن يكون أقرب إلى الصحّة مما سبقته من محاولات لتفسير هذه السورة الكريمة.
وبينما شرحت بالتفصيل تفسيري للنص القرآني، فإنني أشرت في العديد من مواضع البحث إلى عجزي عن ترجيح تفسير محتمل معيّن على آخر. كما أنني ميّزت بدقة بين التفسير الذي أراه «محتملا»، أي يتّفق مع ظاهر النص، وبين التفسير الذي أراه «مُرجَّحا»، أي الذي أعتقد بوجود أسباب لتفضيله على غيره من التفاسير المحتملة.
إن من الممكن تلخيص هذه الجولة التفسيرية بأنَّها محاولة لعيش قصّة يوسف بكل تفاصيلها التي أكّد النص القرآني صراحة حدوثها وكذلك تلك التي أشار إلى وقوعها بشكل غير مباشر. إلا أنني وجدت بأنَّ من المفيد، بل والضروري، أحيانا الإشارة إلى تفاصيل أخرى محتملة يمكن ربطها بقصّة يوسف رغم عدم وجود دليل في النص يؤكّد حدوثها. إلا أنني اجتهدت في أن أميّز بين مثل هذه التفاصيل المحتملة وتلك التي يشير إليها النص بشكل مباشر أو بشكل ضمني.
ولكي تكون دراستي أقرب ما يمكن إلى الموضوعية فإنني لم أقتصر على ذكر تفسيري للآيات الكريمة بل أشرت أيضا في الكثير من مواضع الدراسة إلى أهم التفاسير البديلة التي جاء بها المفسِّرون. كما أنني لم أركّز فقط على الحجج التي تؤيّد تفسيري وإنما ذكرت ما يمكن أن يرى فيه البعض حججاً تخالفه وبيّنت عيوبها وسبب عدم أخذي بها.