الفصل (19) التحلّي بشمائِلِ النبي ﷺ

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية عمان، الأردن (17 أيار 2017).

«يجب أن تكون للدرويش أخلاق وآداب وأصول الرسول ﷺ. يجب على الدرويش أن يقتدي بحضرة الرسول ﷺ. من يؤذي عائلته، أو أهله، أو الناس فليس بدرويش. يجب على الدرويش أن ينطبق عليه الحديث الشريف: «خيرُ الناسِ من نَفَعَ الناس»، يجب أن يكون من خير الناس».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 22 كانون الثاني 2010)

إن معجزات النبوة هي من ضروريات الإيمان برسالة النبي، أي نبي. لأن النبوة هي دعوة غيبية، فَلِكَي يؤمن بها من يعيش في عالم الشهادة، فإنه يحتاج إلى دلائل على انتمائها إلى عالم الغيب. فخوارق العادات هي شواهد على عالم الغيب الذي تتحدث عنه النبوة، لأنها نوافذ في عالم الطبيعة على ما وراء الطبيعة. كما أن صدورها عن النبي هي شهادة لذلك النبي بالذات على أنه مُرسَل من عالِم الغيب والشهادة، الله عز وجل. وهكذا تجعل المعجزات العقل يتواضع أمامها فتطمئنه بصدق المرسَل في نُطقِه عن المرسِل. فالدين يقدّم تفسيراً فريداً متناسقاً للكون والحياة، ما ظهر منه وما بطن، وخوارق العادات هي دلائلُ على هذه الصورة.

ولكن الإيمان ليس تصديقاً عقلياً فقط، وإنما هو حالٌ قلبي أيضاً، فالإيمان جمعٌ بين قناعة العقل وحُبﱢ القلب. لأن تصرّفات الإنسان ليست مدفوعة بقناعاته العقلية فقط، بل إن دور الحجج العقلية والمنطق محدود مقارنة بدور دوافع الإنسان العاطفية. فالمشاعر تلعب الدور الأكبر في أفعال الإنسان، حتى وإن غلب على الناس الاعتقاد بأن أفعالهم هي عقلية أكثر منها عاطفية، لأن هذا الاعتقاد يجعلهم يشعرون بأن أفعالهم هي أقرب ما تكون إلى الصحّة. فكثيراً ما يبرر المرء أفعاله، بما في ذلك أخطاءه، على أساس عقلاني ومنطقي، بينما من الواضح لغيره أنها نابعة عن دوافع عاطفية. لذلك فإن القناعة العقلية لا تكفي لتقويم أفعال الإنسان فتكون كما يأمر الدين، وإنما يحتاج المرء إلى حب في القلب يميل به إلى طيب الأفعال ويَحيدُ به عن سَيِّئها. فإذا كانت القناعة العقلية تأتي من منطق النبوة ومعجزاتها، فما هو هذا الحب القلبي وما مصدره؟

إن هذا الحب هو حب الله سبحانه وتعالى، وأما مصدره فحب من أرسله الله دليلاً عليه. فلم يعرف إنسانٌ المُرسِلَ عز وجل إلا عن طريق رسول منه، لذلك وجب أن يعكس الرسول صفات المرسِل عز وجل الجميلة لكي ينمو حب الرسول، وبالتالي حب المُرسِل، في قلب المُرسَل إليه. فكان من نعم الله على سيدنا مُحَمَّد ﷺ أنه أغدق عليه أجمل الشمائل، فخاطبه في كتابه الكريم مثنياً على خِصالِه الكريمة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم/4). ومن أخلاق نبيّنا الكريم ﷺ هي رحمته ورأفته بالمؤمنين:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة/١٢٨).

﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة/٦١).

ويبيّن لنا القرآن الكريم كيف كانت رحمة النبي مُحَمَّد ﷺ ورِقَّة قلبّه من ضروريات نجاح رسالته:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران/١٥٩).

من الواضح أن المقصودين في هذه الآية هم الذين كانوا قريبين من الرسول ﷺ مكانياً، أي «الصحابة». فلولا تحلّي النبي ﷺ بالرحمة ولين القلب والرقّة، التي هي عكس القسوة والغلظة والفظاظة، لهَجَره حتى صحابته المقرّبون. وجليّ من الأمر الإلهي للنبي ﷺ بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم بأنه كان يعاملهم برحمة ولين دون أية فضاضة أو قسوة حتى حين كانوا يخطئون.

وهنالك حكمة عظيمة في هذا الكَشْف الإلهي، وهي أنه حتى نزول القرآن العظيم بين الصحابة وشهودهم للكثير من معجزات النبي ﷺ مباشرة على مر السنين ما كانا سيمنعاهم من تَركِه لولا أن قرَنَهما الله برحمة استثنائية في قلبه ﷺ ورقة جمّة. بل إن هذه الرحمة وراء الكثير من معجزاته ﷺ التي ساعدت الناس في حاجاتهم، فكانت لهم عوناً ديناً ودنيا. فليس سرّ انتشار الإسلام المستمر هو القرآن فقط، كما يدّعي الذين يريدون تقليل أو تحديد دور الرسول ﷺ، ولا حتى القرآن والمعجزات فقط، كما يظنّ خطأً من ليست له دراية كافية بخفايا النفس البشرية وما يؤثّر فيها، ولكن سرّ نجاح دعوة الإسلام هو اجتماع القرآن ومعجزات صاحِبه ﷺ وشمائله الطيبة من رحمة ولين ورأفة، بشكل خاص، وأخلاقٍ رفيعة عموماً.[1]

فالأخلاق الطيّبة من ضروريات النبوّة ليكون النبي، أي نبي، مثالاً يُحتذى به، وكما قال الله عز وجل عن نبيّنا الكريم: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب/21). فاتّباع أي نبي يعني اتّخاذه قدوةً، فوجب أن يكون مُمثِّلاً للأخلاق التي يريد الله للناس أن يتحلّوا بها. كما أن الشمائل الجميلة تجذب القلوب، مثلما أن الصفات السيئة تنفّرها، فتحتَّم أن يكون النبي رفيع الأخلاق، ولذلك أثنى الله عز وجل على أخلاق سيدنا مُحَمَّد ﷺ بشكل ما بعده ثناء: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم/4). وقال الرسول ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»،[2] كما ربطَ ﷺ الإيمان بشكل مباشر بالأخلاق: «أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَاناً أَحاسنهُم أخلاقاً».[3]

فالأخلاق هي كالكرامات في كونها من ثمرات وعلامات صَلاح المرء ورقيّه الروحي، وهي أيضا مثلها في كونها من متطلبّات إصلاح الغير. إن الناس يطلبون الصالِح لأنهم يرون فيه مصدر بركة وخير يحصلون عليهما بلا مقابل، بينما تراهم ينأون عن الصاِلح المُصلِح بل وكثيراً ما يعادونه لأنه يذكّرهم بالفرق بين حالهم والحال الذي يجب أن يكونوا عليه ويحثّهم على العمل والتغيير. لذلك يتطلّب الإصلاح من المُصلِح شمائلاً وكراماتٍ وقابلياتٍ ظاهرة وباطنة إضافية لكي ينجح في التأثير على الناس.

ولما كان مشايخ الطريقة هم ممثلو النبي ﷺ الذين اصطفاهم من بين الناس، فقد أورثهم الله أحواله. وكما تظهر الكرامات على يد شيخ الطريقة امتداداً للمعجزات النبوية وبرهاناً دائماً مستمراً عليها، فإنه يرث أيضاً أخلاق النبي ﷺ. وكما نجد للشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان كرامات لا تُحصى ولا تتوقّف تجعل العقل السليم يعترف بوراثته لنهج الرسول ﷺ وبركته، نرى له شمائلَ مُحَمَّدية تخلب القلب الحي وتطمئنه بأنه الوارث المُحَمَّدي.

إن العناية الإلهية تضع في من يختاره الله شيخاً للطريقة ميلاً فطرياً لمحاسن الشمائل وتوفّر له التربية والأسباب التي تمنحه هذه الصفات. وحين يجلس على سَجّادة الطريقة تبدأ أحواله وسلوكه وخِصاله بالتغيّر والتطوّر بشكل كبير وسريع لتعكس متطلّبات ومسؤوليّات النيابة العامّة عن الرسول ﷺ بين الناس. وسنستعرض هنا بعض الشمائل المُحَمَّديّة للشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان والشيخ نهرو في لندن، بريطانيا (منتصف 2000).

1-19 التواضع

تجلّى التواضع في كل أفعال شيخنا وأقواله. ومن معالم هذا التواضع الجم تحاشيه نسب أية كرامة إلى نفسه بل ينسبها إلى النبي ﷺ أو مشايخ الطريقة، حتى حين تتضمّن الكرامة ظهوراً جليّاً له فيها، بحيث يراه من وقعت أمامه أو له الكرامة. فحين تُروى أمامه أية كرامة تُنسَب إليه فإنّه يعزوها إلى مشايخ الطريقة.

كما أنّ أحد مظاهر هذا التواضع النبوي هو وصفه لنفسه بلقب «خادم الفقراء»، وهو لقب يفخر مشايخ الطريقة الكَسْنَزانِيّة بإطلاقه على أنفسهم. فالقدسيّة التي يراه بها المريدون وما يتبعها من احترام كبير له، كونه أستاذ الطريقة، لم يمنعا شيخنا من تكرار وصف نفسه بلقب «خادم الفقراء» وترديد قول «سيّد القوم خادمهم»، ضارباً للمريدين مثلاً عظيماً في التواضع، وكما قال عز وجلَّ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحِجْر/88). ونجد تفسير قول «سيّد القوم خادمهم» في حديث الرسول ﷺ: «أَحَبُّ النّاسِ إِلَى اللهِ تَعالى أَنْفَعُهُمْ لِلنّاسِ».[4] ولشيخنا الكثير من الكلام الجميل المؤثّر في هذا الباب، وهذا بعضه:

«أنا اعتزّ بأن آتي يومياً بنفسي أنظّف التكية، أغسل التكية، وأنظّف نِعال الدراويش. إنه شرف لي أن أنظّف نَعْل الدرويش الذي يأتي إلى التكية طالباً وجه الله، لأن التكية هي بيت الله سبحانه وتعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور/36). أنا شيخ، لكنني خادم؛ أنا شيخ، لكنّني أصغر شخص في الطريقة، لأن الشيخ يجب أن يكون خادماً، ويعلّم إخوانه الخلفاء وأبناءه الدراويش الخدمة».[5]

ومن معالم تواضع شيخنا وخدمته للمريدين هو اهتمامه بكل مريد يزوره وتخصيص وقتٍ له بغض النظر عن حالته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فكان الكثير من أكابر الناس ووجهائهم يحبّون زيارته وقضاء وقت في صحبته، ولو شاء شيخنا لقضى جلَّ وقته المخصَّص للناس معهم. ومع اهتمامه بعِلْيَة القوم، فإنه قضى معظم وقته مع الناس في متابعة أمور الدراويش، ووعظهم، والسؤال عنهم، والاستماع لحاجاتهم. ومن المواقف المؤثرة التي كثيراً ما شهدها زوّار شيخنا هو إنصاته بصبر واهتمام لتفاصيل احتياجات دراويش من أبسط الناس، وبعضهم كان قد أخذ تواً البيعة. وإضافة للدعاء للسائل بقضاء حاجته، فوفقاً لتلك الحاجة، كان أحياناً يصف له ذكراً معيّناً له، أو ينصحه بشأنها، أو يوجّه أحد مساعديه بإعطائه ما يحتاجه، كتجهيز دواء عشبي لعلّة يشتكي منها، أو تزويده بمعلومات لم يكن يعرفها، أو دلّه على شخص أو جهة يحتاج الاتّصال بها، أو مساعدته مالياً، وغير ذلك. ولم يثنِه عن هذا الاهتمام عدد الزوّار من أصحاب الحاجات.

كنت في ليلةً في زيارة شيخنا في عمّان وكان يعاني من آلام كثيرة وكان هنالك الكثير من المريدين الذين يريدون زيارته، فسألته بأدبٍ إن كان من الأفضل أن يذهب للراحة في تلك الليلة ولا يقابل أحداً، خصوصاً وأن الليلة التالية كانت احتفالاً بالمولد النبوي الشريف، وفي أيام المولد يبقى شيخنا في مجلسه حوالي ثماني ساعاتٍ متواصلة ويصاب بتعب شديد. فأجابني وحب الأب لأبنائه على مُحيّاه بأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك وقد جاء دراويش يريدون رؤية شيخهم ومنهم من جاء من بلد آخر أو مكان بعيد وترك عمله وأهله وصرف وقتاً ونقوداً لرؤيته. وفي آخر سنين عمره، كان شيخنا في حالة ألم في معظم الوقت، ولكنه كان يغالب ألمه كل يومٍ وليلة ليلتقي بالدراويش والزوّار ويقوم بواجباته كشيخ الطريقة.

 

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أثناء بناء إحدى التكايا ووراءه مساعده الخليفة الحاج مُحَمَّد محمود چمچمال (الثمانينات).

2-19 الوفاء

حمل شيخنا وفاءً عظيماً لمن خدم الطريقة وساعدها. فلم ينسَ ما قدّم شخص من مساعدة مهما صَغُرَت وتقادَمت في الزمن، ولم يتوانَ عن مد يد العون إليه متى ما أحتاجها. وكان كثير السؤال عن عوائل المتوفّين من الدراويش وأحوالهم وما إذا كانوا في حاجة إلى أية مساعدة. تجسّد في شيخنا قول النبي ﷺ: «لا يَشْكُرُ الله مَنْ لا يَشْكُرُ النّاسَ»،[6] والوفاء هو من أجمل أنواع الشكر.

تحدّث شيخنا يوماً عن الوفاء فقال «أنظر كم هو وفيّ الله تعالى لعباده» ثم استشهد بالآية الكريمة التي وإن كانت كلمة «وفاء» لا ترد فيها فإنها تبيّن بأجمل شكل وفاء الله للصالحين من عباده: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ (الكهف/82). فبسبب صلاح والد اليتيمين، جعل الله الخَضِر يبني لهما الجدار الذي كان على وشك أن ينقضَّ ليخفي الكنز حتى يكبرا فيجداه ويكونا قادرين على الاستفادة منه. ثم استطرد أستاذنا ليؤكّد بأن الوفاء من صفات الله سبحانه وتعالى، لذلك فإن «الوفي» هو من أسمائه الحسنى.[7] وقد أشار العلماء إلى عدد من الآيات الكريمة التي تحتوي على مشتقّات كلمة الوفاء منسوبة إلى الله، مثل: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّـهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ (النور/25)، ولكني لم أقرأ لأحد ملاحظة شيمة الوفاء في ما تصف آية سورة الكهف، فهذا إضافة من شيخنا لتفسير هذه الآية. ثم أضاف قائلاً بأن الوفاء هو من صفات الإنسان «المؤمن، المتديّن، العاقل».

إن من جميل صحبة أستاذنا مشاهدة أفعاله تجسّد كلامه. سمعت كلامه هذا عن الوفاء في جلسة خاصة حضرها خليفة آخر. بعد قليل، حان وقت زيارة الدراويش اليومية الليلية لشيخنا. وكان من بين الزائرين أحد أبناء الخليفة يوسف حسن صالح (رحمه الله) الذي خدم الطريقة كثيراً قبل أن يستشهد في عام 2013. فاستقبله أستاذنا بكرمٍ شديدٍ وفاءً لوالده، وقبّله وأجلسه قريبا منه وبقي يناديه كل حين وآخر بـ «ابني» و «حبيبي»، ويصف والده المرحوم بـ «البطل».[8]

ورغم العدد الهائل لمن خَدَمَ الطريقة، من الدراويش وغيرهم، فقد كان شيخنا يتذكّرهم جميعاً، وهذا من شواهد ذاكرته الجبّارة، قبل أن يضعفها المرض في آخر حياته. فترى أحياناً شخصاً بسيطاً أو غير معروف يأتي لزيارته من بعد فترة فإذا به يُفاجئ حضور مجلسه بتذّكر ذلك الشخص وخدمةٍ ما قدّمها قبل عقود، بما في ذلك تفاصيلاً من ذلك الماضي البعيد عن طبيعة الخدمة لا يظن أحدٌ أن من الممكن تذكّرها. وكثيراً ما يبادر بذكر من ابتعد عن الطريقة، فيرسل من يتّصل به ليسأل عنه، ربّما لمساعدة قدّمها يوماً ذلك المرء. فوفاء الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد استثنائي ولم يقتصر على أناس مقرَّبين منه، كما شمل حتى من ساعده أو ساعد الطريقة بشكل بسيط.

وأذكر عرضاً هنا أن قوة ذاكرة شيخنا كانت أيضاً تبدو حين كان يضطر إلى قطع حديثه مع شخص ما نتيجة استلامه مكالمة هاتفيّة مستعجلة أو ليتعامل مع أمر طارئ، وقد يستغرق ذلك دقائقَ طويلة. إذ ما إن ينتهي من معالجة ما طرأ، حتى يعود إلى إكمال حديثه مع ذلك الشخص من النقطة التي توقّف عندها وكأنه كان يقرأ في كتاب وقد وضع علامة هناك!

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أثناء جلسة مدائح في فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية (9 أيلول 2019).

3-19 الحلم والعفو

كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد كاظماً للغيظ ويحب العفو عن الناس، وكان إذا ما أغضبه أمرٌ فإن غضبه سريع الزوال: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران/134). ومن أوجه جمال هذه الآية القرآنية هو أمرها بالإنفاق والعفو عن كل الناس دون تمييز، أي ليس عن المسلمين منهم فقط. وكم من شخص آذى شيخنا بشكل أو بآخر لحقدٍ أو حسدٍ أو عداء للطريقة فردّ شيخنا الأذى بالصبر وكَظْم الغيظ، بل وبالمغفرة والكرم. وهذه من الصفات النبوية الشريفة التي جعلها الله في نبيه الكريم ﷺ حين أمره: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فُصِّلَت/34). وهذه من عظيم الأخلاق التي لا يحصل عليها المرء إلا بتحلّيه بصبر كبير، ولكنها أيضاً باب لخير عظيم: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (فُصِّلَت/35). وعلى سبيل المثال، هنالك الكثير من الأفراد الذين سخرّتهم أجهزة الحكومة في عهد حزب البعث في العراق للتجسّس على شيخنا والطريقة وكتابة التقارير السرّية التي كانت أحياناً تؤدّي إلى مشاكل وأذى لشيخنا والطريقة والدراويش. فلما ولّى زمن ذلك النظام، لم يحاول شيخنا أن ينتقم من أولئك الجواسيس وإن كان يعرفهم. بل أصبح بعضهم دائم التردد على التكية وأحياناً يزور شيخنا الذي لا يلومهم على ما مضى، بل ولا يذكره.

ومع عفو شيخنا وتسامحه مع من يسيء إليه شخصياً وإلى عائلته أو من يهاجم الطريقة من خارجها، فإنه حازم تماماً مع أي مريد يسيء بأقواله أو أفعاله إلى الطريقة ويشوّه سمعتها. فما يفعله المريد بالذات يمكن أن يستخدمه أعداء الطريقة حجّة عليها، فسمعة الطريقة وصورتها هي مسؤولية يضعها الرسول ﷺ ومشايخ الطريقة في يد الشيخ الحاضر في كل زمان، وعلى شيخ الطريقة أن يحافظ على نقائها ويدافع عنها. ولكن شيخنا مُسامِحٌ للمريد المخطئ حين يعتذر ويعود عمّا ارتكب ويتوب.

4-19 رقّة القلب

كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بكّاءً، ذا قلب غاية في الرقّة وسريع التأثر. كان كثير البكاء سريعه عند سماعه لذكر الله عز وجل والرسول ﷺ ومشايخ الطريقة. وكان يتأثر بشكل استثنائي عند ذكر الإمام الحُسَين عليه السلام وما عاناه وآله من ظلم.

كانت تُرى رقّة قلبه هذه في تفاعله مع المريدين والناس عموماً واستجابته لما تمرّ بهم من شدائدٍ وظروف صعبة، سواء ما أصاب منها أفراداً أو جماعات. إذ كان خادم الفقراء غاية في الكرم مع الفقراء والمحتاجين، وهنالك الكثير من العوائل التي كانت تعتمد بالكامل على مساعدات شيخنا. وحين مرّ العراق بظروف صعبة بسبب نشاطات داعش الإرهابية أدّت إلى تشريد الكثير من الناس رعى شيخنا آلاف العوائل المهجّرة، فأوعز إلى وكيله الشيخ نهرو بأن يتولى مسؤولية سكن وطعام وشراب وصحة وباقي حاجات هذه العوائل. فأمر بتحويل مزرعته في منطقة الدورة في بغداد إلى مخيّم ضخم لإيواء المُهَجَّرين من مريدي الطريقة وغيرهم بلا استثناء، فوصل عددهم في المخيّم إلى خمسة وثلاثين ألف مهجّرٍ. واستقبلت التكية الرئيسة في السليمانية كذلك أعداداً هائلة من الذين أُجبِروا على ترك بيوتهم وتولّت مسؤوليّة إيوائهم وتكاليف معيشتهم.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة إرشاد في تكية السليمانية، العراق (منتصف العقد الأول من القرن الحالي).

5-19 بشاشة الوجه

كان شيخنا بشوش الوجه يستقبل الناس والابتسامة تعلو وجهه الجميل. ففي مُحَيّاه النوراني ترى وصف الصحابي للنبي ﷺ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ»،[9] وفيه تجسيد قول الرسول ﷺ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ».[10] وكم من شخص قابل شيخنا وهو يخفي العداء أو يظهره فإذا بابتسامة شيخنا وبشاشته تغسلان قلبه وتستبدلان مشاعر السوء والعدوان بالودّ.

6-19 مساعدة الفقراء والمحتاجين

لم يكن شيخنا كريماً فقط مع من ساعد الطريقة أو ساعده، بل كان يحب مساعدة أصحاب الحاجات. إن الطريقة الكَسْنَزانِيّة قبلة للفقراء والمحتاجين واليتامى والمساكين، من المسلمين وغير المسلمين. وحتى حين كان شيخنا يمر بضائقة ماليّة فإنه لم يتوقّف عن مساعدة الكثير من الناس ومن يطرق باب التكية طلباً للمساعدة. اعتبر شيخنا الفقر والعوز داءً ذا تداعيات خطيرة على الفرد والمجتمع، فكان يذكّر الدراويش دائماً بأن مساعدة الفقير والمحتاج فرض على المسلم. ومن أقواله الكثيرة في هذا الباب:

«إذا كان الناس فقراء فإنهم يلجأون إلى العمل الحرام، ولكن إذا رأونا أنا وأنت وفلان نساعدهم فلن يلجأوا إلى الحرام. سيقول الفقير حينئذ: «الله يرزقني، إخواني المسلمون، إخواني الدراويش، إخواني الطيبون يساعدوني، فِلمَ ألجأ إلى الحرام؟»».[11]

وكان يستشهد بالآية الكريمة ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾ (المائدة/2) مذكّراً بأن مساعدة الفقراء والمحتاجين هي من أوجه التعاون على العمل الصالح الذي فرضته هذه الآية الكريمة. كما كان يقول بأن هذه المساعدة هي من مسؤوليات المسلم التي أمر بها النبي ﷺ في حديثه «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»،[12] وهي من مظاهر المودة والرحمة والعطف التي يذكرها هذا الحديث الشريف: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».[13]

وكان أستاذنا كثير الذكر للآية الكريمة ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ التي من دلائل أهمّية ما تأمر به هو ورودها في كتاب الله ست مرّاتٍ (البقرة/3؛ الأنفال/3؛ الحج/35؛ القصص/54؛ السجدة/16؛ الشورى/38). ويؤكّد بأن معظم الناس قد أساؤوا فهم هذه الآية على أنها تعني مساعدة الفقراء والمحتاجين بما يزيد على حاجة المرء من الرزق، ليبيّن بأن المقصود بها هو أن ينفق المسلم من قوته اليومي، مما يأكل ويشرب، فيساعد المحتاجين مما ينفق على نفسه وعلى أهله: «هكذا يحصل الأجر، فالحصول على الأجر يكون بأن تفكّر بالأطفال الفقراء واليتامى مثلما تفكّر بأولادك».[14]

ومن الحوادث الجميلة التي تبيّن تفنّن شيخنا في مساعدة الناس أنه كان يوماً يمشي في أسواق عمّان حين أراد شراء حاجة رآها، وإن كان لا يبدو في حاجة لها. فطلب من أحد مرافقيه أن يسأل عن سعرها، فإذا بالبائع يطلب سعراً يفوق بكثير سعر السوق. فطلب من المرافِق أن يعرض على البائع سعراً أقل من السعر المطلوب، ولكن المرافِق قال لشيخنا بأن ما عَرَضَه لايزال عالياً جداً، ولكنه تفاجأ بشيخنا يجيبه: «أعلم هذا، ولكنّي أريد أن أُفيدَ هذا البائع»! فأحياناً يشتري حاجة بأعلى من سعرها الحقيقي بغية نفع البائع، ربما لأنه محدود الدخل، أو لأنه ينفق في سبيل الله في مساعدة المحتاجين.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يستقبل زواراً في محل إقامته في لندن (منتصف عام 2000).

7-19 الإحسان إلى الأيتام

عامل أستاذنا بحنانٍ خاصٍ الأيتام الذين خصّهم الله عز وجل بالذكر في الكثير من الآيات الكريمة، وهذه أيضاً خصلة تحلّى بها كل مشايخ الكَسْنَزان. فمن مآثر مشايخنا التي تبيّن مدى حبّهم ورعايتهم للأيتام أن السلطان عبد القادر الكَسْنَزان كان يسير بين حوض شاه الكَسْنَزان وجامع كَرْبْچْنَه حين رأى طفلين يتيمين، فمدّ يده في جيبه ليعطيهم مالاً، فلم يجد شيئاً. فسأل الدراويش الذين كانوا معه إن كانوا يحملون مالاً، ولكنهم أيضاً لم يكن لديهم شيء. فرفع الشيخ الطفلين على كتفيه وسار وهو يحملهما حتى ضحكا ونزلا. وحين سأله الناس عن ذلك أجاب بأن زعل هذين اليتيمين يؤدي إلى زعل الله عليه، ولذلك أراد أن يعطيهما شيئاً يفرحهما، ولما لم يكن لديه مالٌ فإنه حملهما على كتفيه ليدخل السرور على قلبيهما. كما كان الشيخ عبد القادر الكَسْنَزان يضع بعض طعام التكية جانباً ويخرج ليلاً ليوزّعه بنفسه على الأيتام.

ومن مآثر مشايخنا في هذا الباب أن امرأة جاءت تريد مقابلة السلطان حُسَين الكَسْنَزان، فأخبرها القائمون على خدمته بأنه مشغول بعباداته، ولكنها أصرت على أن يخبروا الشيخ بأن أرملة لديها أيتام تريد أن تسلّم عليه، فأذن لها الشيخ أن تزوره. وبعد أن سلّمت عليه قالت بأنها أم أيتام وأنها لا تريد التسوّل من الناس ولذلك فإنها تطلب مساعدته. ولكن شيخ الزاهدين لم يكن لديه مال يساعدها به، كما أنّه لم يرد أن يردّها فارغة اليدين، فقلع بيده سناً ذهبياً من أسنانه وأعطاه لها لتبيعه وتعيل به نفسها وأيتامها.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه ووراءه جبل سَه گَرمه (السبعينيات).

8-19 منح الهدايا

ومن مظاهر كرم شيخنا أنه كثير الإهداء للناس، ولا يتردّد في إهداء شيء يملكه وإن ندر وغلا ثمنه. وحبه لإعطاء الهدايا للناس ليست من معالم الكرم فحسب، ولكنها أيضاً تطبيق لحديث النبي ﷺ «تَهادَوْا تحابُّوا».[15]

ومن لطائف سلوك شيخنا أنّه أحياناً يقتني حاجياتٍ ليس بحاجة إليها ولا يبدو أن هنالك من سبب لشرائها، ليتّضح فيما بعد بأنه كان يعلم لها فائدة في المستقبل، غالباً لتكون هديّةً لشخص ما. ففي مطلع عام 2015 دخل يوماً محلاً لبيع السجّادات في عمّان، وأشار لمرافقه بأن يقتني سَجّادة عليها صورة النبي عيسى وأخرى عليها صورة أمه مريم عليهما السلام. فتساءل المرافق في نفسه عما يبغي شيخ الطريقة من شراء مثل هذه السجّادات التي يستهوي اقتنائها عادة النصارى، وبدا التساؤل على وجهه، فقال له شيخنا بأن يأخذ السجّادتين ولا يشغل نفسه بالأمر. بعد حوالي شهرين، وتحديداً في مطلع شهر آذار، زار سفير الفاتيكان لدى الأردن المطران جيورجيو لنغوا Giorgio Lingua شيخَنا في التكية، فإذا بشيخنا يرسل في طلب السجّادتين ليهديهما إلى الزائر!

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية عمّان، الأردن (5 كانون الثاني 2019).

9-19 الحنان على الأطفال وحبّهم

كان شيخنا يحب الأطفال كثيراً، فكان يهوى ملاطفة أحفاده، كما كان يهتم بأطفال الدراويش حين يزورونه مع أهلهم ويخاطبهم بحنان ويدعو لهم. وعند خروجه إلى الأسواق، كان يطلب أحياناً من مرافقيه أن يحملوا معهم بعض الشكولاتة أو الحلوى ليقدّموها إلى أطفال يقابلونهم في السوق. وكان يتأثّر حتى لرؤية الأطفال يذهبون إلى المدارس مشياً على الأقدام فكان يقول بأنه لو كان في مستطاعه لجعل لكل طفلٍ سيارة تقلّه إلى مدرسته ومنها.

إن بيت شيخنا في كَرْبْچْنَه يقع على ربوة صغيرة، وعدد بيوت القرية الصغيرة لا يتجاوز الستين بيتاً، وكان الليل هنالك هادئاً تماماً، فكان أي صوت عالي نسبياً في الليل يصل إلى سمعه. فأثناء قيامه الليل كان يصل إلى سمعه أحياناً صوت بكاء طفل فيؤذي قلبه حتى يجد صعوبة في الاستمرار في أذكاره وعباداته، فيطلب من أحد مساعديه الذهاب إلى بيت الطفل والاستفسار من أهله عمّا يُبكيه والطلب منهم أن يحاولوا الاستجابة لحاجة الطفل ليتوقف عن البكاء، فإذا لم يكن ذلك في مستطاعهم فيحاول مساعدتهم بشأن تلك الحاجة.

في منتصف عام 2015 ذكرت لشيخنا بأن أخي قد بدأ إجراءات الطلاق من زوجته وطلبت منه أن يدعو له. فكان أول ردّه أن سألني إن كان لديهم أطفال. فلما أجبته إيجاباً بأن الكبير يبلغ من العمر عشرة أعواماً والصغير ثمانية، نظر إليّ نظرة حزن وأبدى ألمه لتأثير الطلاق على الأطفال، ثم سألني إن كان من الممكن أن يتصالح الزوجان. فأخبرته بأن الشقاق والخلافات بينهما أكبر من تسمح بالاستمرار في الزواج وأنه لا مهرب من الطلاق. حينئذ أخذ يوصيني بأولاد أخي وكأنه يوصيني بأحفاده هو، حتى وجدت نفسي في حاجة لأن أطمأنه مراراً بأننا سنرعى الطفلين خير رعاية!

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يستقبل زواراً في محل إقامته في لندن (منتصف عام 2000).

10-19 رعاية مرضى الصحّة العقليّة

ومن معالم اهتمام شيخنا الاستثنائي بالمستضعفين في المجتمع هو رعايته لمرضى الصحّة العقلية والنفسيّة ولأصحاب الاحتياجات الخاصّة. فمنذ عقود مضت، حين كان المجتمع يفتقد الوعي الذي يجعله يعامل هؤلاء باحترام وكرامة، كان شيخنا راعياً لهم ولحاجاتهم ويوصي بهم خيراً. فحين كان العراق تحت وطأة الحصار الاقتصادي القاسي بعد احتلاله للكويت، أخبر أحدهم أستاذنا بوجود حالات وفيّات بين نزلاء مستشفى الرشاد للصحة العقلية بسبب عدم تجهيزها بالمواد الغذائية، حيث عانى هؤلاء المرضى أكثر من غيرهم من شحّة الطعام لأنهم من فئات المجتمع المستضعفة التي تتلقى أقل قدر من الاهتمام من السلطات والناس بشكل عام. فوجّه شيخنا بأن ترسل التكية الرئيسة في بغداد بشكل يومي الطعام إلى المستشفى، حتى أصبح الفرح يعمّ مرضى المستشفى حالما يرون سيارة المساعدات الكَسْنَزانِيّة. ولكن بعد فترة قامت السلطات الحكومية، التي كانت تعامل الطريقة وكل ما تقوم به بحذر وريبة، بإبلاغ شيخنا بإيقاف هذه المبادرة الإنسانية. وأحياناً يأتي أو يُجلَب إلى التكية طلباً للبركة والشفاء هكذا مرضى وأولو احتياجات خاصّة، وأمر أستاذنا هو معاملتهم بشكل طيّب، حتى من يعاني منهم من مشاكل سلوكيّة، وإكرامهم بالطعام والشراب.

وفي العقدين الأخيرين من القرن الماضي، كان شرطيٌ متقاعدٌ اسمه عبد الله (رحمه الله) من أصحاب الاحتياجات الخاصة يتردد بشكل يومي على التكية الرئيسة في بغداد، غالباً لساعات طويلة، ولم تكن له عائلة ترعاه أو تهتمّ به. وكان شيخنا يوصي به خيراً ويعامله بودّ خاص ويتبادل معه أطراف الحديث بين الحين والآخر على مرأى من الدراويش، ليعلّمهم معاملة هذه الفئة المُستضعفة من الناس بالاحترام والرفق. وحين ألمَّ بعبد الله مرض شديد، طلب شيخنا من أحد الخلفاء أن يرافقه طيلة مدّة إقامته في المستشفى والتبرع له بالدم، وحين توفّي عبد الله إلى رحمة الله أوعز أستاذنا بأن يقوم الدراويش بمراسيم دفنه، كما كان سيفعل أهله.

11-19 الرأفة بالحيوان

لم تقتصر طيبة ورحمة شيخنا ورقة قلبه على الناس فقط، ولكنها شملت الخلق بشكل عام، بما في ذلك الحيوانات والنباتات. وهذا طبعٌ كل مشايخ الطريقة الذين ورثوا رقّة القلب والعطف من أستاذهم ﷺ. فقد قصَّ المربّي الأكبر ﷺ على صحابته ما يلي:

«بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ. فَقَالَ: «لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي»، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ. فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ».

فسأله الصحابة: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟» قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»،[16] أي أن في مساعدة أي كائن حي أجر.

وهنالك الكثير من الحوادث والكرامات التي تُظهِر عطف مشايخ الطريقة على الحيوانات ورعايتهم لها، وسنذكر هنا بعضها. ففي تسعينات القرن الماضي أخبر المشايخ أستاذنا يوماً بأن الأسماك في حقله في مزرعته في الدورة كانت جائعة، فلما استفسر من المسؤولين هنالك علم بأن الأسماك كانت قد تُرِكَت من غير طعام لثلاثة أيام. فقام شيخنا بنفسه بالذهاب إلى الحقل وإلقاء الطعام إليها. وبيَن تسابق الأسماك على التهام الطعام مدى جوعها.[17]

وفي شهر تشرين الأول من عام 2008 اتّصل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد هاتفياً من عمّان بأحد المسؤولين عن تكية السليمانية وقال له بأن المشايخ أبلغوه في تلك الليلة بأن كلاب التكية كانت جائعة وطلب منه بأن يرعاها. وحين ذهب الحاج لطيف ليبحث عن الكلاب وجدها قد اجتمعت في مكان واحد وكأنها في انتظاره، فلما أشار إليها اتبعته إلى حيث كان الطعام.[18] كما كان يذكّر المسؤولين في التكية بين الحين والآخر بضرورة إطعام كلاب التكية.

ووقعت كرامة شبيهة في عام 2014 أو 2015، حيث اتّصل أستاذنا صباح أحد الأيام من عمّان بالمسؤولين عن مزرعته في السليمانية، وقال لهم بأن المشايخ أبلغوه بأن الكلاب جائعة فطلب منهم إطعامها. وتبيّن بأن القائمين على المزرعة لم يطعموا الكلاب لأربعة أيام.

والرحمة تجاه كل الخَلق هي من الشمائل النبوية الشريفة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/107). والرحمة ورقّة القلب هي من الخِصال التي اكتسب شيخنا قدراً كبيراً منها بالذات بعد جلوسه على مشيخة الطريقة.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر في تكية السليمانية (ربما 2005/2006).

12-19 المُزاح

مع جدّية شيخنا وحزمه في إدارة أمور الطريقة والدراويش وحرصه على تطبيق أوامر ونواهي الشريعة والطريقة، فقد كان يحب المزاح في وقته. كان أحياناً يتجاذب أطراف حديث خفيف الظل مع الدراويش من أصحاب النكتة الذكيّة وسرعة البديهة، كما كان يحب الاستماع إلى قصص المقالب المضحكة. إن إدارة الطريقة ومعالجة التحديّات التي تمرّ بها تضع شيخ الطريقة تحت ضغوط نفسية مستمرة، وللضحك دور صحّي في تخفيف الإجهاد النفسي. وقد وَصَف الصحابي عكرمة النبي ﷺ قائلاً: «كان بالنبيّ دُعابة»،[19] أي كان يمزح أحياناً، وحين سُئِلَ ابن عبّاس عمّا إذا كان النبي ﷺ يمزح أجاب: «كان النبي ﷺ يمزح».[20] وكان الصحابي نُعيمان بن عمرو الأنصاري كثير المزاح والضحك، وكان النبي ﷺ يحب نكاته ومزاحه.[21]

ومن اللطائف أن الخليفة ياسين صوفي كان يمزح مع بعض الدراويش في تكية بغداد حين ناداه خليفة اسمه «طه» ونصحه بالتوقّف عن المزاح بالتكية. ورغم علم الخليفة ياسين بأنه لا ضير في مزاحه مع الدراويش، فإنه احتراماً لهذا الخليفة الأكبر سناً توقّف عن المزاح. وبينما كانا يتبادلان أطراف الحديث جاء خادم شيخنا ليخبر ياسين بأن الشيخ يريد رؤيته في مكان استراحته. فلما ذهب إليه تفاجأ بشيخنا يخبره بحصوله في ذلك اليوم على كتابٍ يجمع ما ورد من مزاح عن الرسول ﷺ! ثم نادى على زوجته وطلب منها أن تجلب الكتاب ليعيره للخليفة ليقرأه. وقبل أن يغادر الأخير قصّ عليه أستاذنا إحدى مزح الكتاب.

بعد خروج الخليفة ياسين ذهب إلى الحاج طه وسأله مبتسماً عما كان يقول له قبل أن يذهب لرؤية شيخنا، فأشار هذا إلى نصحه له بعدم المزاح في التكية، فأخبره ياسين بأن أستاذنا أرسل في طلبه ليعطيه كتاباً جامعاً لطرائف وممازحات للنبي ﷺ! فذهل الحاج طه لتدخّل شيخنا بهذا التوقيت الدقيق، وأدرك أن اعتراضه على المزاح لا أساس له في السُّنّة النبوية. ومن لطائف هذه الكرامة هو أن الكتاب لم يكن بين يدي شيخنا وقت الحادثة، وإنما أرسل في طلبه، فمن الواضح أنه عَلِمَ بالحديث الذي دار بين ياسين وطه فأرسل في طلب الأول ثم طلب الكتاب ليعيره له.

[1] فتوحي، صفات قيادية للنبي مُحَمَّد ﷺ.

[2] البيهقي، السنن الكبرى، ج 10، ح 20782، ص 323. كما ورد الحديث بصيغة «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صالِحَ الْأَخْلَاقِ»، أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج 14، ح 8952، ص 513.

[3] الطبراني، المعجم الصغير، ج 1، ح 605، ص 362.

[4] الطبراني، المعجم الكبير، ج 12، ح 13646، ص 453.

[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الأوّل 2005.

[6] أبو داود، سُنَن أبي داؤد، ج 7، ح 4811، ص 188.

[7] القرطبي، الأسنى في شرح أسماء الله الحُسنى، ج 1، ص 422-423.

[8] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 16 حزيران 2018.

[9] الترمذي، الجامع الكبير، ج 6، ح 3641، ص 30.

[10] الترمذي، الجامع الكبير، ج 3، ح 1956، ص 506.

[11] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 16 أيلول 2013.

[12] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 872، ص 261.

[13] مسلم، صحيح مُسلم، ج 4، ح 2586، ص 1999-2000.

[14] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 11 آب 2013.

[15] مالك، موطأ الإمام مالك، ج 5، ح 3368، ص 1334.

[16] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 2292، ص 16.

[17] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 29 تشرين الأوّل 2019.

[18] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 14 تشرين الثاني 2008؛ 29 تشرين الأوّل 2019.

[19] الأصبهاني، أخلاق النبي وآدابه، ج 1، ص 495.

[20] الأصبهاني، أخلاق النبي وآدابه، ج 1، ص 487.

[21] ابن عبد البرّ، الاستيعاب في معرِفة الأصحاب، ص 1526-1530.

لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة.
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share