الفصل (20) صفاتٌ قياديّةٌ

Share

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، وعلى يمينه وكليه العام حينئذ وشيخ الطريقة بعده الشيخ نهرو، في محل إقامته في لندن (منتصف عام 2000).

«من لا يوجد حب الرسول في قلبه ليس بمسلم: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾ (آل عمران/31). من لا يتّبع خطوات الرسول، أمور الرسول ﷺ فإن إيمانه غير كامل. الإيمان الكامل هو حب الرسول ﷺ، فهو يسحبك إلى حب الله سبحانه وتعالى. أنت تحب الرسول ﷺ لله. إذاً فالمريد الكامل هو مخلصٌ، محبٌ».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 21 حزيران 1990)

كما شاهدنا في الفصل السابق، فإن التحلّي بالأخلاق النبوية هي من ثِمار وعلامات الصلاح، فما من إنسان صالح إلا وكان رفيع الخُلْق. كما أن الأخلاق الجميلة هي من متطلّبات الإصلاح، إذ لا يصبح الصالح لنفسه مصلحاً للناس إلا إذا تحلّى بأخلاق تجعله ذا تأثير فعّال عليهم، فينصتوا لقوله ويرقبوا عمله ويحتذوا به. بالإضافة إلى الأخلاق الرفيعة، هنالك قدرات ومواهب يتطلبّها أي دور قيادي، بما في ذلك القيادة الروحية. وقد اجتمعت في الرسول مُحَمَّد ﷺ هذه الأخلاق الرفيعة والصفات القيادية، فكان خير الرُسُل والناس.

إن «شيخ الطريقة» هو منصب إصلاحي قيادي في عالم الروح وفي الدنيا يقود المريدين، من أنس وجان، روحياً وظاهرياً في رحلة الطريق إلى الله. فمن يختاره النبي ﷺ ومشايخ الطريقة لهذا المنصب الإصلاحي الكبير يجب أن تكون له مهارات قيادية تمكّنه من تحمّل المسؤوليّات العظيمة لهذا الدور، مثلما يجب أن يكون مُتجمِّلاً بأخلاق النبي ﷺ. وينظر الله بعين الرعاية لمن كتب له أن يكون شيخاً للطريقة فيضع فيه قدرة فِطرية على اكتساب مهارات القيادة ويوفّر له التربية والأسباب التي تساعده على تحويل ذلك الاستعداد إلى واقع حال. وتبقى هذه المهارات والقدرات تتطور وتُصقَل بالترقي الروحي وزيادة الخبرة وتنامي الوعي الثقافي، قبل الجلوس على سجّادة الطريقة وخلال مرحلة المشيخة.

وسنستعرض في هذا الفصل بعض صفات القيادة التي تحلّى بها أستاذنا.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان يستقبل سفير الفاتيكان لدى الأردن، المطران جيورجيو لنغوا، في تكية عَمّان (آذار/مارس 2015).

1-20 الشخصية الجذّابة                       

من أفضال الله على الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان هو أنه كانت له منذ صغره شخصية جذابة ذات طيبة فريدة تحبّب الناس إليه، وهذه من عطايا الله التي لها علاقة بدوره المستقبلي كأستاذ للطريقة: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ (طه/39). وضاعفت بركة مشيخة الطريقة هذه الطيبة، فجعلته يدخل قلب كل من رآه بشكل عفوي ومباشر. ولم يحسّ بهذا التأثير الدراويش فقط، وإنما الناس بشكل عام، فكثيراً ما أشار أناس يزورونه لأوّل مرّة إلى شخصيته المحبوبة. فنجح شيخنا في بناء علاقات اجتماعية واسعة مع مختلف الناس، كبيرهم وصغيرهم، غنيّهم وفقيرهم. جعلته هذه الجاذبية ذا طبيعة اجتماعيّة، فكان الناس دائماً يتحلّقون حوله فلم يخلُ مجلسه من الزوّار. وحتى حين خروجه من داره لبعض أمره فإنه كان يحب اصطحاب البعض معه.

ومنحته شخصيته الجذابة وسماته القيادية وثقة الناس به منذ شبابه مكانة كبيرة بين رؤساء العشائر ووجهاء القوم، فكانت له كلمة مسموعة عندهم. وكانوا كثيراً ما يلجأون إليه في حل مشاكلهم والخلافات بينهم، فكانوا يعاملونه وهو لايزال شاباً صغير السنّ وكأنه رئيس عشيرة. كما أن حبّه للدفاع عن المظلومين جعله قبلة الضعفاء الذين كان الكثير منهم يقصدونه للعيش في قريته وتحت حمايته هرباً ممن كان يظلمهم ويؤذيهم. إذ كان شجاع شديد المراس يقف في وجه الظالم أياً كان ولا يخاف في الحق لومة لائم.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة مقام الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد (تسعينيّات القرن الماضي).

2-20 بناء العلاقات مع مختلف الناس

كانت لشيخنا قدرة هائلة على بناء علاقات ناجحة مع أناس من مختلف الخلفيات الاجتماعية والثقافية والعقائدية. فكانت له علاقات قوية مع عدد كبير من عامة المثقفين والمفكرين أهل الاختصاص والسياسيين والفنانين والعلماء ورجال الدين وغيرهم. وساعده في بناء هذه العلاقات اهتمام واطّلاع في مختلف العلوم وقدرة استثنائية على التحاور مع الناس وتبادل الآراء في مختلف المجالات العلمية والثقافية والسياسية، وزيّن هذه القابليات احترامه للآراء المختلفة.

ومن صفاته الشخصية التي جعلته ناجحاً جداً في العلاقات الاجتماعية هي دماثة خلقه بشكل عام، وكرم لسانه، وصفاء قلبه في التعامل مع الناس، وحبّه للناس عموماً. فقد كان يحب نشر المودّة بين الناس ويردّد الحديث الشريف «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ»[1] ويضرب الأمثال في تطبيقه.

3-20 الفكر الاستراتيجي

تتطلب القيادة النظرة الاستراتيجية التي تجعل القائد يرى من المستقبل ما يغفل عنه معظم الناس. فكان شيخنا أحياناً يخطّط لأمور ويقوم بأفعال لا يفهمها الناس في وقتها ولا يظهر سرّها ونفعها إلا بعد سنين كثيرة. كما كانت لديه القدرة على اتّخاذ قرارات والقيام بأفعال فيها قدر غير قليل من المجازفة، ولكنها مجازفات محسوبة بعيدة عن التهوّر والتصرّف غير المدروس. ومن الأمثلة على ذلك هو قراره التاريخي بعد أن أصبح أستاذ الطريقة بنقل مركز الطريقة من كركوك في شمال العراق إلى العاصمة بغداد، رغم حساسيّة السلطات الحكومية حينئذ تجاه الحركات والمنظمات الدينية بشكل عام، إضافة إلى نظرها إليه على أنه كردي القومية، رغم نسبه الشريف، في وقت كانت الدولة والحركة القومية الكردية في حالة سلم غير مستقر. فبدون هذا التغيير لبقيت الطريقة الكَسْنَزانيّة محدودة الانتشار، متركّزة في شمال العراق وبعض مدنه. لقد ساعد نقل مركز الطريقة إلى العاصمة بغداد إلى انتشار الطريقة لا في جميع العراق فحسب، ولكن في الكثير من دول العالم أيضاً.

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان مع مجموعة من الدراويش، ربما في كركوك (ثمانينيّات القرن الماضي).

4-20 تعدّد المهمّات

لمشيخة الطريقة مسؤوليات كثيرة مختلفة تماماً عن بعضها، فتتطلّب قيادة الطريقة القدرة على إدارة هذه المسؤوليات المختلفة في نفس الوقت وبكفاءة ورؤية واضحة. فكان شيخنا يُرى خلال فترة قصيرة من الوقت يناقش تفاصيل بناء تكية في مدينة ما، ويقترح حلولاً لمشاكل زراعية معيّنة في مزرعته، ويصف علاجات من الأذكار والأعشاب لدراويش من أصحاب الأمراض جاؤوا لزيارته، ويطّلع على كتب صادرة حديثاً ليختار ما يريد أن يقرأه منها، ويناقش إرسال وفد من الخلفاء للإرشاد في دولة ما، وغير ذلك من مهمّات متنوعة ومختلفة. ولا تتطلّب إدارة هذه المسؤوليّات مجرّد القدرة على فهم تفاصيل كل حالة بشكل كافٍ واتّخاذ القرارات السليمة، ولكن أيضاً القيام بذلك في وقت سريع جداً، لأن عدد المسؤوليات الكبير يعني بأن هنالك وقتاً محدوداً للتعامل مع كل منها. فإدارة مسؤوليات مختلفة بكفاءة تشير إلى موهبّة خاصّة ولكنّها ضرورية للموقع القيادي.

5-20 حب العمل والمثابرة

تتطلب إدارة الكثير من المسؤوليات في نفس الوقت حب العمل وتسخير كل ما تتطلبه المهمّات المختلفة من وقت وجهد. كان شيخنا منذ صغره يحب العمل ويكره التقاعس والكسل. فحين كان طالباً كان يحب الدراسة ويواظب عليها، وكان لا يتجاوز الثامنة عشر من العمر حين توفي أخاه الأسن حُسَين فناب عن والده شيخ الطريقة في مسؤولياته الاجتماعية والعشائرية الكثيرة. كما تولّى إدارة أراضي الطريقة الزراعيّة، وكان كثيراً ما يقوم بنفسه بقيادة آلة الحرث حتى يتعب فيطلب من الفلاح المسؤول إكمال العمل. ولولا هذه القدرة على العمل وتحمّل الصِّعاب لما اشترك في الحركة الكردية وعاش ستَّ سنين غاية في القسوة والشدّة.

وبقي شيخنا طول حياته يعمل بنشاط وجد، وكان يحضّ الدراويش دائماً على العمل والجد فيه، مكرّراً القول المعروف «في الحركة بركة». ومن أقواله «العمل مبارك، يجدّد الحياة».[2] ورغم أن تقادمه في العمر وضعف حالته الصحية كانا يحدّا بشكل متزايد ما كان يمكن له القيام به، فقد بقي يمارس من نشاطاته ما استطاع.

6-20 التسامح الديني

كان النبي مُحَمَّد ﷺ يستقبل أهل الكتاب ويحاورهم بشكل ودّي ويكرمهم، وهذا في عصر لم يكن يُعرَف فيه بعد التسامح الديني.[3] بل كان من أوّل ما قام به الرسول الكريم ﷺ بعد هجرته إلى المدينة المنوَّرة أن وضع ما غدا يُعرَف باسم «صحيفة المدينة» التي وضعت أسس التعايش السلمي، بل والتعاون، بين المسلمين وأهل الكتاب واعترفت بحقوقهم الدينية والإنسانية.[4] وتعتبر هذه الوثيقة، التي تُعرَف أيضاً باسم «دستور المدينة»، أول دستور مدني من نوعه في التاريخ.

وسار مشايخ الطريقة على نهج النبي ﷺ في احترام الأديان الأخرى وحثّوا أتباعهم والناس بشكل عام على عدم الاستهزاء بعقائد الآخرين، مما جعل أصحاب الأديان الأخرى ينظرون إلى مشايخ الطريقة بعين الحب والاحترام. فمثلاً، كان هنالك رجل دين يهودي اسمه سعيد يحب زيارة الشيخ حُسَين الكَسْنَزان، ومن مظاهر احترامه للشيخ أنه كان يمتنع عن الجلوس في مجلسه رغم طلب الشيخ ذلك منه، وكان يجيب بأن رؤية الشيخ كافية لتريحه. ومن معالم حب الخواجه سعيد بالشيخ حُسَين أنه طلب بأن توضع رسالة كان قد أرسلها إليه الشيخ حُسَين تحت رأسه عند وفاته تبرّكاً بها. وحين كان الشيخ عبد الكريم في إيران، كان يحضر مجلسه عددٌ من اليهود حبّاً في زيارته. وحين كان شيخنا في الحركة الكردية كان يرسل بين الحين والآخر إلى والده في إيران حاجته من الأدوية، فكان اليهود الذين يتردّدون على مجلس الشيخ عبد الكريم هم الذين يوفّرون هذه الأدوية.[5]

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر (ربما ثمانينيّات القرن الماضي).

كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد حريصاً على التقريب بين الأديان والتشجيع على احترام العقائد والثقافات المختلفة. ففَتَح أبواب التكايا الكَسْنَزانِيّة لأصحاب الأديان الأخرى الذين يريدون التعرّف على الإسلام والاطّلاع على عبادات المسلمين. فإضافة إلى رفضه للتفريق بين مذاهب المسلمين، كان حريصاً كل الحرص على بناء روح الود والاحترام والحوار البنّاء بين الإسلام وباقي الأديان.

ومن الطبيعي أنّ رجال الدين المسلمين الذين ينتقدون التصوّف أو لا يميلون إليه لم يحضروا مجلس الشيخ عبد الكريم. ولكن شيخنا عمل جاهداً على بناء علاقاتٍ معهم، فتراه يكرمهم أي كرم حين يزورون التكية أو يلتقي بهم في مكان ما. فكثيراً ما أرسل خلفاء إلى رجال الدين الذين يتهجّمون على الطريقة في مجالسهم أو من المنابر ليبيّنوا لهم بالحكمة الحسنة والطيب من القول خطأ ما يفعلون وتسبّبه بشِقاقٍ لا مبرِّرَ له بين المسلمين. ونجح بحكمته في التقليل من عداء هؤلاء للطريقة الكَسْنَزانِيّة بشكل خاص والتصوف عموماً، كما أنه قلّل من التوتّر بين المتصوّفين وغيرهم. ويعكس هذا أيضاً قدرته الاستثنائية على بناء علاقاتٍ ودّية ناجحة مع مختلف الناس، بما في ذلك من يخالفه في العقيدة.

هذه نبذة عن بعض من الصفات القيادية للشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد التي اجتمعت عنده بأخلاق رفيعة، كما شاهدنا في الفصل السابق، فجعلت منه مُربياً ومصلِحاً وقائداً روحياً كبيراً نفع به الله عز وجل ملايين الخلق.

[1] أبو داود، سُنَن أبي داؤد، ج 7، ح 5124، ص 444.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 21 تشرين الأوّل 2019.

[3] ابن هشام، سيرة النبي ﷺ، ج 1، ص 489-490.

[4] ابن هشام، سيرة النبي ﷺ، ج 2، ص 126-130.

[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 26 تشرين الأوّل 2019.

.لؤي فتوحي 2004-2021. جميع الحقوق محفوظة
 http://www.facebook.com/LouayFatoohiAuthor
 http://twitter.com/louayfatoohi
 http://www.instagram.com/Louayfatoohi

Share